الصفحات

19 يونيو 2012

السعودية: نظام ينسف الجسور; د/مضاوي الرشيد


تعيش السعودية اليوم في ظل الثورات العربية تتكدس همومها الداخلية وترتبك علاقاتها الخارجية دون ان تتمكن من وضع استراتيجية تحل أزماتها من مشاكل اقتصادية اهمها البطالة، وسياسية تتركز حول مطالب اصلاحية عالقة اولها الانتقال الى مجلس شورى منتخب واجتماعية تتمظهر بارتفاع نسبة حالات الانتحار التي طالت الشباب والاطفال واحتقان شعبي حول قضايا تقسم المجتمع كحقوق المرأة التي تتجاوز دعوات قيادة السيارة.
وتظل السعودية ربما آخر دولة في العالم بدون برلمان منتخب وحرية صحافة ومجتمع مدني مستقل ناهيك عن حق التجمع والتنظيم السياسي وبدون دستور يحدد صلاحيات الحكومة ويقيد تماديها في الاستهتار بالحقوق المدنية والسياسية وهي ايضا تمنع الاتحادات المهنية والعمالية وتحرم حق العمل السياسي السلمي والاعتصامات والاضرابات ورغم كل القيود المفروضة على اي نشاط سياسي مستقل ينبثق من المجتمع نجد ان الحراك الشعبي قد بدأ بالفعل وتزامن مع الثورات العربية ليزداد سقف المطالب. ومنذ عام تقريبا تم نشر اكثر من بيان بعضها جمع آلاف التوقيعات من الشباب والشابات كلها تطالب بحريات سياسية مستحقة وعدالة اجتماعية وانسانية واقتصادية والافراج عن سجناء الرأي ولم يتوقف الحراك عند البيانات بل تجاوزه الى المظاهرات والمسيرات في الجامعات وعند الوزارات ومراكز التوظيف ومؤخرا انطلقت مسيرة سلمية مناصرة للمساجين بدون محاكمة فاجأت النظام حيث انها انطلقت من مركز تجاري وجمعت حشدا لا بأس به من اهالي المعتقلين وذويهم والمتعاطفين معهم. وظل الاعلام الرسمي السعودي والعالمي صامتا عن هذا الحراك الجديد ومتجاهلا لابعاده واسبابه. وما قد يؤدي اليه في المستقبل حيث يفضل العالم ان تبقى السعودية خلف ستارة حديدية تختفي معالم التذمر وراءه ولا يخرج من قبضته سوى اخبار المواجهات اليومية في الاسواق بين افراد هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والنساء اللواتي يتسوقن في المراكز التجارية كان آخرها فيلم 'فتاة المناكير' حيث تصدت احدى المتسوقات للهيئة رافضة طردها من السوق بسبب طلاء اظافرها وتناقلت وسائل الاعلام العالمية خبر المواجهة وسكب عليها الحبر حتى تجاوز عدد المشاهدين لمقطع الفيلم الى اكثر من مليون مشاهد.
مثل هذه الاخبار تمتص التساؤلات عن مستقبل السعودية وماهية المشكلة حيث يحلو للبعض ان يصور مشكلة السعودية في الهيئة ومطارداتها للنساء ومن ثم الاحتفال بالنسوة الشجاعات اللواتي يؤصلن للحريات الفردية والنقلة النوعية للمواجهة مع نظام القمع الديني. فينتشر الخبر بسرعة فائقة اما المسيرة المطالبة باطلاق السجناء السياسيين وسجناء الرأي فتبقى مغيبة الا في العالم الافتراضي وقلة قليلة من الصحف العالمية المستقلة لانها تعري الخطاب المروج لمشاكل السعودية وكأنها مشاكل نساء وهيئة فقط لا غير. ويتجاهل هذا الخطاب معضلة الحكم المغيبة عن الحوار والنقاش حيث نجد ان اثنين من رؤوس الحكم الملك وولي العهد قد أصبح من الصعب عليهما ادارة دفة الحكم بسبب المرض والعمر وكذلك حالة التجاهل لجميع المطالب الشعبية المنادية بالاصلاح السياسي. وان بقيت السعودية تعيش حتى هذه اللحظة في ظلال الثورة دون ان تخرج الى العلن فهذا يعود الى اساليب النظام الهادفة الى قمع أي محاولة تهدف الى توسيع رقعة المشاركة السياسية منذ اندلاع الثورات العربية لجأ النظام الى استراتيجية واحدة وهي نسف الجسور التي تؤصل لانبثاق وحدة وطنية هدفها حشد المواطنين خلف سلسلة من المطالب فالنظام يحارب أي مبادرة او بيان او حراك قد يجمع بين اطياف مجتمع يحاول ان يقسمه عموديا حتى يبقى غير قادر على تجاوز خلافاته الفكرية والطائفية والمناطقية والقبلية فينصب نفسه مشرفا على عملية التقسيم والضامن للامن والامان حتى يقتنع المجتمع ان النظام وحده هو الكفيل بتأمين السلم الاجتماعي وحماية الاكثرية الصامتة من حراك الاقلية المسيسة الناشطة. وهناك عدة امثلة نستشرف منها مدى محاصرة النظام لكل محاولة تبني جسرا يعبر عليه المشروع الوطني الاصلاحي.
منها الغاء مؤتمر النهضة المقرر عقده في الكويت تحت اشراف الشيخ سلمان العودة وكان المؤتمر ولاول مرة يجمع اطيافا فكريا متنوعة يقدمها الشباب بمختلف اتجاهاتهم السياسية الاسلامية منها والليبرالية بعيدا عن اجندة السلطة وحورب المؤتمر في الكويت وتم الغاء حضور الكثيرين رغم انه انتقل الى مكان لقاء آخر. كان المؤتمر سيؤصل لمبادرة جديدة يخافها النظام السعودي وهي ردم الهوة بين تيارين فكريين يحاولان ان يظلا كخطين متوازيين لا يلتقيان. المثال الثاني الذي ينسف الجسور هو محاولة النظام وعلمائه فتنة الناس بينهم حتى اصبح كل انسان موضع شك وريبة خاصة عندما يتزايد الحديث العلني والتحذير من موجة الالحاد التي تضرب عواصفها كل شخص تحت ما يسمى تأثير التغريب المبرمج الذي يهدف الى تفكيك الايمان وصرف البشر عن دينهم. فينخرط المجتمع في البحث عن الملاحدة وتقصي احاديثم وثرثرتهم على شبكات التواصل الاجتماعي علهم يلتقطون خيطا يجرون صاحبه الى حبل المشنقة فالمجتمع في حالة تأهب وتربص ينتظر بوادر الالحاد ليسقط عليها احكامه وغضبه نصرة للدين فيختبر هؤلاء دين بعضهم البعض ويصبح كل فرد الها يحاكم البشر ويتلصص عليه راصدا زلاته فينشغل المجتمع بقضايا تبعده عن السياسة وهمومها ومطالبها ويتحول الى معركة الكل ضد الكل في محاولة ازلية لتجريم هذا وذاك ويظل الحكم بعيدا عن التمحيص وممارساته تستمر في الاستهتار بحقوق البشر والتي طرحت في بيانات مطولة.
وان لم يفتن المجتمع بهذه القضايا فهناك دوما القضية التي تقسم وتفجر الجسور وهي قضية المرأة والتي اصبحت في قاموس البعض المطية الاولى والاخيرة لاختراق المجتمع المسلم الساكن والمطمئن. فيصطف المجتمع في خندقين متعارضين لا جسر بينهما ولا حوار بناء بل معركة داحس والغبراء بعينها تنتقل كل يوم من ساحة الى خرى تبدأ بالسيارة والتوظيف في محلات بيع الملابس الداخلية وتنتهي عند طلاء الاظافر وتنطلي قضية العصر على جدران الصحافة وكأنها المعركة الحاسمة التي ستنهي عصر الظلام وطمس هوية المجتمع الاثرية. وكلما وضع احدهم اللبنة الاولى لتقريب المواقف وايجاد الحلول كلما ازدادت عملية التفجير ونسف المبادرات الحسنة.
ومثال أخير هدفه نسف الجسور يتمثل بتأجيج الخطاب الطائفي الذي يخون الآخر ويربطه بالخارج فيحشد الاكثرية ضد الاقلية في وحدة وهمية آنية لكنها مهمة بالنسبة للنظام الذي يتملص من المسؤولية ويختفي خلف الحل الامني واطلاق الرصاص ليصفق الجمهور العريض كلما هوت ضحية وسالت الدماء وتناثرت الاتهامات. وجاءت الثورة السورية فرجا للمجتمع المأزوم المنعدم لابسط ابجديات الديمقراطية ليصفق الجمهور لحرب حتى هذه اللحظة بقيت ما وراء الحدود لكنها استطاعت ان تمتص الاحتقان الداخلي السعودي والازمة المحلية لتسقط غضبها على عدو آخر علوي هذه المرة فينخرط فيها من لم يستطع حتى هذه اللحظة ان يفتح الجبهة الداخلية على نظامه. وليس من مصلحة النظام السعودي اسدال الستار على الثورة السورية بنصر للثوار والذين قد يفتح الباب على مصراعيه امام طيف كبير من الاحتمالات والتي ربما لا تكون كلها تصب في مصلحة النظام السعودي الا ان للثورة السورية واستمراريتها فائدة عظيمة من منطلق كونها اولا في طريقها لان تستمر كحرب اهلية ضروس تأكل الاخضر واليابس وثانيا لقدرتها على استيعاب التململ السعودي الداخلي من نظام يبقى الاكثر اقصائية والابعد عن الديمقراطية في العالم. وحدها سورية اليوم تساعد النظام السعودي على نسف جسر العبور لديمقراطية في الداخل السعودي لانها مثال حي لنهر دم يخفق ويثني اي متحمس لمشروع ثورة في مجتمع منقسم عاموديا كالمجتمع السعودي. فهل يعي ابناء الجزيرة العربية ان خلاصهم لا يتحقق الا بجسر تعبره الانقسامات المناطقية والطائفية والفكرية. وبدون هذا الجسر سيظل المجتمع يترنح ويتخاذل في المطالبة بحقوق مشروعة وانهاء حقبة الاقصاء والتفرد بالسلطة وتهميش المجتمع. 
*كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق