الصفحات

28 نوفمبر 2011

من جدة الى القطيف: مأساة وطن د. مضاوي الرشيد


صبح القضاء الممثل لاجهزة الدولة والحل الامني وسيلتين بيد السلطة السعودية لمواجهة ازمتها الوجودية الحالية. خلال اسبوع واحد تم الحكم على 17 شخصا بالسجن لمدد تتراوح بين 5 و30 سنة، واستحضر النظام مصطلح الخلية السرية للتعريف بمجموعة معتقلي جدة الذين تم اعتقالهم عام 2007 ولم يحاكموا الا يوم الثلاثاء 22 تشرين الثاني/نوفمبر. 
ووجهت لهم تهم متعددة ومتشعبة، منها اثارة الفتنة والتشكيك باستقلالية القضاء وتبييض الاموال والاتصال بجهات خارجية ومحطات الاعلام العربية والخروج على ولي الامر وتبني فكر الارهاب، حسبما اوردته بيانات رسمية نشرت في الصحافة المحلية. وصدم المراقبون باجراءات المحكمة، خاصة انها لم تضمن التمثيل الكافي لموكلي المتهمين او الصحافة المستقلة سوى ما وجد من صحافيين تابعين لجرائد ووسائل اعلامية رسمية مملوكة من رموز النظام، وجاءت احكام السجن طويلة لتؤكد انها احكام مؤبد حيث لن يخرج منها المساجين الا بعفو ملكي ان تحقق ذلك في المستقبل القريب. ولم تكن المحكمة الا لقراءة الاحكام الصادرة خلال بضع ساعات خرج بعدها المتهمون مكررين صمودهم وتماسكهم. وبينما ظلت القضية الشغل الشاغل لكثير من الناشطين المشككين في عدالة الاحكام وشرعية التهم وقد اذهلتهم قساوة الحكم وسطحية المحاكمة، سقط 4 شهداء في القطيف حيث وجهت قوات الامن الرصاص الحي على متظاهرين ضد الحصار الامني الذي تفرضه السلطات على المنطقة منذ اكثر من عشرة اشهر.
وكالعادة استحضر النظام مصطلحات الفتنة والعمالة للخارج والتلاعب بالامن والاستفزاز من قبل الشباب، واستدعي وجهاء المنطقة للعب دور المهدئ للشارع من دون جدوى، حيث فقد هؤلاء القدرة على ضبط الامور التي تنذر بتفاقم المشكلة وانحدار جهاز الامن الى المزيد من المواجهات في المستقبل، وارتفعت اصوات الطائفية البغيضة، منهم من يدعو لابادة جماعية واخرى تنادي بالترحيل من الوطن منذرة بأزمة حقيقية تتفجر بشكل يصعب احتواؤه وينذر بمزيد من العنف والعنف المضاد، وفي الجهة المقابلة ومن حسن الحظ برزت اصوات اخرى تندد بالحشد الطائفي وتدعو للحفاظ على الوحدة الوطنية والترحم على كل من سقط في المواجهة الدامية، من دون التفريق على اساس الهوية الطائفية.
ومن خلال متابعة المشهدين في جدة والقطيف نستطيع ان نجزم بان السعودية مقبلة على تطورات مستقبلية لن يستطيع النظام احتواءها عن طريق الحل الامني او المحاكمات السريعة، خاصة في هذه المرحلة الحرجة.
جاءت المحاكمة في جدة والمواجهة الامنية في القطيف لتدشن صفحة جديدة وتكشف اللثام عن اساليب الحكم القادمة، حيث تستمر القبضة الحديدية ولغة العنف في مواجهة اي مطالب سياسية اصلاحية. حتى هذه اللحظة يتجاهل النظام السعودي اي مطلب سياسي، بل انه يسعى جاهدا لاسقاط مصطلحات الارهاب والفتنة على كل من يطالب به حتى يتحول هذا المطلب الى عمل ارهابي ولو انه لم يستعمل العنف او يمارسه، ومن هنا تكمن المشكلة حيث ان انغلاق الافق السياسي وتجريم سلسلة طويلة من الحراك والزج بهذا الحراك في خانة الارهاب دوما مع فارق كبير بين من يفجر في المدن ومن يجتمع لبلورة اجندة اصلاحية، يجعل الساحة السعودية تعيش حالة احتقان دائمة، وان كان النظام قد تعاطى مع هذا الوضع بالسابق من خلال الخطاب الديني والفتاوى التي تدين الحراك السياسي السلمي حينا والقبضة الامنية من اعتقال والتصدي بالرصاص، كما حصل بالقطيف، الا ان الوضع يختلف اليوم عما كان عليه في السابق. 
تبدو القيادة السعودية عاجزة عن ابتكار حلول جديدة لمواجهة هذا الاحتقان، رغم مبادرات تحسين الوضع الاقتصادي والخدمات والاعانات واستيعاب البطالة وترديد مقولات تربط المطالب الاصلاحية الداخلية باجندات خارجية، ورغم ان الاقتصاد السعودي يظل اقوى اقتصاديات المنطقة الا انه ليس البديل عن الاصلاح السياسي الفعلي وليس الشكلي. وفشلت مقولات النظام انه النظام الوحيد السلفي السني وان دستوره القرآن وانه الوحيد الذي يطبق الشريعة في امتصاص المطالبة بالاصلاح، حيث ان اكبر المشككين في هذه المقولات جاءوا من العمق السعودي المعروف بسنيته وسلفيته وليس من الطرف الآخر الشيعي المنادي بتفعيل مفاهيم حق المواطنة للجميع والمساواة في الفرص والحقوق والواجبات. تحت ضغط هذه المطالب السنية والشيعية رغم اختلاف منطلقاتها ومطالبها الا انها تشير الى تآكل شرعية الخطاب التسلطي السياسي ـ الديني الذي يفرضه النظام كسردية تضمن بقاءه على حاله من دون التجديد والتغيير في الممارسة السياسية. انطلاق الخطاب المضاد للسلفية الرسمية المشرعنة لنظام الاستبداد وتبلور مصطلحاته التي تستحضر مفاهيم جديدة ومعاني دفنت في السابق تتعلق بالامة ودورها واستقلال القضاء عن السياسة ومتطلباتها كضمان للعدل وربط الشورى بمجلس امة منتخب قد تبدو مصطلحات جديدة على الساحة السعودية، الا انها تروج اليوم وتبرز بشدة وقوة لن يستطيع خطاب المؤسسة الدينية الرسمية ان ينافسها او يحتويها مهما خرجت فتاوى وخطب ضدها، ويبدو ان هذا الخطاب الجديد هو ما تخافه السلطة السياسية، حيث ليس من السهل وصمه بالتغريب او العمالة للخارج او التبعية لاجندات همها تمزيق الوحدة الوطنية، كذلك هي لن تستطيع ان تفنده مستعينة بوصمة الخوارج، التي دأب النظام على استحضارها ضد من ينتقده، رغم ان انتقاده قد يكون سلميا بحتا. ولم يعد احد يصدق وصمة الخوارج والذين خرجوا على خلفاء راشدين وليس اسرة ابتعدت عن نهج السابقين وتصدت لمطالب الاصلاح بقضاء تبعيته للنظام وليس لشرع، والمفروض ان يكون فوق النظام ومصالحه الآنية، او بالحل الامني في مواجهات مظاهرات تبدأ سلمية وتنتهي بسفك الدماء ومزيد من القتل والتشكيك بالولاء. وان كان النظام في السابق استغل المعضلة الشيعية لكسب ولاء الاكثرية الا ان مثل هذه الاساليب القديمة قد لا تنجح في المستقبل مع تبلور رؤية مغايرة تعتبر المعضلة جزءا لا يتجزأ من تبعيات الحكم التسلطي والاستئثار بالسلطة. واكثر ما يخيف النظام الخطاب الوطني الذي يتجاوز حدود الطائفة والقبيلة والهوية الضيقة ليصيغ رؤية شاملة للاصلاح السياسي تتجاوز نظرة النظام للمعضلة بشقيها السني والشيعي. وان كان الخطاب الطائفي الموجه ضد الشيعة قد نجح الى حد ما في تأجيل المواجهة مع الاكثرية السنية، خاصة تلك المتطلعة لاصلاح سياسي ونقلة نوعية للحكم نجد ان محاكمة مجموعة جدة قد فتحت الباب على مصراعيه لتأجيج المطالب الاصلاحية بدلا من تأجيلها. ولم تصمت الاصوات الاصلاحية مقابل التلويح بالخطر الخارجي وتهديد الامن التي اصبحت فارغة من معناها وطالما ظل النظام متمسكا بمفهوم ضيق للامن يحصره في امنه هو وليس امن المجتمع ككل، سترتفع هذه الاصوات وتصعد من مطالبها، خاصة انها مهددة اما بالرصاص الحي او احكام بالسجن في قاعات المحاكم السعودية.
ربما تبرهن المرحلة القادمة استفاقة المجتمع من عقود طمست وحاربت حراكه وطموحاته ولن يستطيع النظام ان يبقى متحجرا يعتقد ان توزيع الشيء البسيط من الثروة سيكفل الصمت الى الابد ويمتص المطلب السياسي المشروع، حيث خرجت مطالب الاصلاح ليس من المعدومين والمهمشين والعاطلين عن العمل، بل من شخصيات تعيش حالة اقتصادية مقبولة لكن طموحاتها تتجاوز المأكل والملبس الى المطالب الحقوقية المدنية والسياسية وهي لا تعتمد في مرجعيتها على خطاب مستورد من السهل وصفه بالخطاب الذي لا يصلح لمجتمع مسلم محافظ، بل هي تنهل من نفس التراث الديني وتستنبط منه تفسيرات تغاير تلك التي تحتضنها السلطة السياسية تحت سقف مؤسساتها الدينية والتربوية.
وقد وصل هؤلاء الى نتيجة حسمت الموقف من السلطة التعسفية وربيبتها الدينية واصبح انتقاد الاثنتين جزءا مهما في فضح الاستبداد تحت مظلة شرعية لا يستفيد منها الا اقلية لا زالت تردد خطاب الطاعة خوفا على مصالحها المرتبطة بالنظام واخرى تستفيد من الحلف السياسي الديني الذي يوفر لها فرصا انتهازية وحظوة اقتصادية قائمة على علاقات زبونية مع رموز النظام.
تبدو السعودية مقبلة على مرحلة مفصلية ومفترق طرق لا يصعد في خطورتها الا ممارسات النظام التعسفية ضد النشاط والحراك السياسي وقد تصبح خياراته محدودة تنحصر في احكام قضائية جائرة ومواجهات امنية دامية تزيد من الاحتقان في المستقبل، ومن الصعب تبني نظرة متفائلة تجاه النظام، خاصة انه اثبت مرارا عدم استجابته للاصلاح السياسي وتمسكه باساليب القمع المعروفة وسيجد نفسه يتحول الى نظام فئوي صاحب قاعدة شعبية ضيقة، خاصة ان شرعيته تتآكل في شرق البلاد وغربها مما سيفتح الباب على مصراعيه لحركات أكثر فتكا بالوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية. وان لم يتدارك النظام السعودي هذه الفرضية فسيكون المسؤول الاول والاخير عن حالة فوضى يصعب امتصاصها في المستقبل مهما تصاعدت وتيرة الحلول الامنية وتسارعت محاكم النظام في ادانة المصلحين، مستعينة بسرديات لم تعد مقنعة لشريحة كبيرة في المجتمع. وسيكون تعنت النظام من جدة الى القطيف متسببا في مأساة وطن.

' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق