دول
الخليج تتغير، وكذلك شعوبها، وسلوكيات حكامها وحكوماتها معا، ولكن بشكل
متسارع وغير مسبوق، فلم تعد تصريحات مسؤوليها تتسم بالغموض، واللف والدوران، وتجنب
اتخاذ موقف سياسي واضح، في قضايا خليجية على وجه الخصوص، مثلما كان عليه الحال
طوال الثلاثين عاما الماضية من عمر مجلس التعاون الخليجي الذي بدأت تظهر عليه
اعراض الشيخوخة لانسداد قنوات التجديد والتحديث اذا كانت موجودة اصلا.
بالامس
جاءت "الصاعقة" من سلطنة عمان اكثر دول المجلس هدوءا ومحافظة، عندما فجر
وزير خارجيتها السيد يوسف بن علوي قنبلة من العيار الثقيل، واين؟ في قلب مدينة
المنامة، واثناء مشاركته في ندوة حوارية سنوية تعقد باسمها.
السيد بن
علوي فاجأ الجميع عندما وقف وسط الحضور، واخذ الميكروفون ليرد على الدكتور نزار
مدني وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، رافضا بكل وضوح، ودون اي تلعثم، مشروع
الاتحاد الخليجي الذي دعا اليه في كلمته التي القاها من فوق منبر "حوار
المنامة"، وقال بالحرف الواحد "لن نمنع قيام هذا الاتحاد، ولكن اذا حصل،
فلن نكون جزءا منه".
الاخطر
من ذلك كله، ان السيد بن علوي الذي يتمتع بهدوء غير معهود، ذهب الى ما هو ابعد من
ذلك، وهدد علانية، في تصريحات لوكالة الصحافة الفرنسية، بانسحاب بلاده كليا من
مجلس التعاون الخليجي، اذا ما تقرر قيام هذا الاتحاد الذي دعا اليه العاهل السعودي
الملك عبد الله بن عبد العزيز، وما زال يصر عليه.
هذه
الغضبة العُمانية لا يمكن ان تكون آنية، وفورة عاطفية، او رد فعل غير محسوب، فهذه
ليست طبيعة الخليجيين عموما، والعُمانيين منهم خاصة، ولا بد ان وراء الاكمة ما
وراؤها، وان هناك مخزونا ضخما من الغضب كان ينتظر الفرصة لكي يظهر على الملأ
وينفجر.
نحاول ان
ننقب عن الاسباب، ونقلب الحجارة، ونبدأ بالجغرافيا ونقول ان فورة الغضب هذه انفجرت
في المنامة بحضور معظم وزراء الخارجية العرب، وتشاك هاغل وزير الدفاع الامريكي،
والعديد من الوزراء الاوروبيين والعالميين او نوابهم.
واذا
انتقلنا الى عامل التوقيت، وهو الاهم في رأينا فانها جاءت بعد ايام من توقيع
الاتفاق النووي الايراني مع الدول الست الكبرى في جنيف، (...).
الامر
المؤكد ان امير الكويت الشيخ صباح الاحمد الذي ستتزعم بلاده القمة الخليجية
السنوية يوم غد الثلاثاء سيكون الاكثر قلقا من هذا التطور الذي لم يحسب له اي
حساب، فبالكاد نجح في "تجميد" خلاف قطري سعودي كاد ان ينسف هذه القمة،
عندما اصطحب الشيخ تميم بن خليفة الى الرياض لتهدئة غضب العاهل السعودي الذي فاض
كيله من الخروج القطري على الاجماع الخليجي بدعم الاخوان المسلمين في مصر، حتى
يشتعل هذا الخلاف السعودي العماني الذي لا يمكن ان يفجر قمة الكويت فقط، وانما
مجلس التعاون كمظلة اقليمية ايضا.
ليس من
عادة سلطنة عمان اتخاذ مواقف صريحة وقوية كتلك التي عبر عنها السيد بن علوي،
ولكنها يأست فيما يبدو من مجلس التعاون وفائدته، وعضويتها فيه، منذ ان رفضت
المملكة العربية السعودية، ودول اخرى، اقتراح سلطانها بتشكيل جيش خليجي قوي تدريبا
وتسليحا، تعداده مئة الف رجل تحت اسم "درع الجزيرة"، وما ازعجها اكثر ان
بعض المسؤولين في المجلس اتهموها همسا بانها تبحث عن وظائف لمواطنيها بضمهم الى هذا
الجيش، وعندما اجتاحت القوات العراقية الكويت عام 1990، ادرك الكثير من دول الخليج كم اخطأت عندما رفضت هذا المشروع، ولا نعرف اذا كانت المملكة العربية
السعودية من بين النادمين ام لا.
ومن
الواضح ان سلطنة عمان لم تعد تنظر لمجلس التعاون كاطار وحدوي خليجي يمكن ان يفيد
دوله وشعوبها، فقد نأت بنفسها عن بعض مؤسساته وهياكله، ورفضت منذ اليوم الاول
الانضمام الى العملة الخليجية الموحدة، وحافظت على علاقات قوية مع ايران في وقت
كانت تحرض شقيقاتها على حرب ضدها.
لنكن
صريحين ونسمي الاشياء باسمائها، ونقول ان صيغة مجلس التعاون كتجمع اقليمي لدول
ثرية، وشعوب قليلة العدد متجانسة، في منطقة نفطية تتنافس القوى الكبرى والاقليمية
على قصعتها، لم تحقق آمال شعوبها في الوحدة وتحقيق اسباب القوة، والاندماج العسكري
قبل الاقتصادي، ولهذا بدأ الصدأ يتسرب اليها، والخلافات الحدودية تنهشها، بحيث باتت
هيكلا عظميا شكليا.
فالخلاف
السعودي القطري لم يهدأ مطلقا، وان شهد بعض الهدن القصيرة، فالخلاف القبلي استعصى
على الرتق، رغم ان البلدين هما الوحيدان في منطقة الخليج اللذان يجمعهما
المذهب الوهابي، وتنحدر اسرتاهما الحاكمة من هضبة نجد، ووصل هذا الخلاف الى الصدام
العسكري في معبر الخفوس الحدودي بينهما اوائل التسعينات، وكادت ان تجتاح القوات
السعودية قطر قبل سبع سنوات غضبا منها وقناة جزيرتها التي بثت شريط "سوداء
اليمامة" (قيمتها سبعون مليار دولار) الذي يوثق مزاعم عن تورط الامير سلطان
بن عبد العزيز ولي العهد الراحل وبعض اولاده في رشاوى وعمولات بالمليارات في صفقة
اسلحة اليمامة، وتصاعد الخلاف مجددا اثر دعم قطر للاخوان المسلمين في مصر، ومنافسة
السعودية على السيطرة على المعارضة السورية المسلحة وفصائلها.
الصراع
الخليجي على الارض المصرية اتخذ اشكالا سياسية ومالية متعددة، فقطر دعمت الرئيس
محمد مرسي والاخوان، بينما فضل المربع السعودي الاماراتي الكويتي البحريني دعم
الفريق اول عبد الفتاح السيسي الذي اطاح بالاول وحركته، بينما اعاد الفريق السيسي
لقطر وديعة بملياري دولار من مساعداتها بطريقة غاضبة حازمة بحجة رفض فوائدها
العالية، ضخ المربع السعودي 15 مليار دولار في الخزينة المصرية، ووقفت سلطنة عمان
على الحياد.
واذا كان
الصراع الحدودي السعودي الاماراتي على حقل الشيبة النفطي (ينتج نصف مليون برميل
يوميا)، وشريط العيديد، (طوله 40 كيلومترا) قد جرى تجميده في الوقت الراهن، للتفرغ
للتصدي لايران وطموحاتها النووية من ناحية، والاخوان المسلمين من ناحية اخرى،
وتحالف ضد قطر الداعمة للاخيرين، فان نار الخلاف ما زالت تحت الرماد، وقد تشتعل في
اي وقت، واحد ارهاصاتها رفض الامارات الانضمام الى العملة الخليجية الموحدة مثلها
مثل عمان وان اختلفت الاسباب قليلا.
قمة
الكويت التي ستعقد غدا الثلاثاء ستكون مختلفة عن جميع القمم الاخرى، هذا اذا
انعقدت على مستوى الزعماء، وفي هذه الحالة ستكون الوجوه متجهمة وعاقدة الجبين، ولا
نستطيع ان نقول انها قد تكون الاخيرة، ولكن فرصها في النجاح ستكون محدودة جدا.
مجلس التعاون
الخليجي يحتضر، وانا ادرك ان هذا التوصيف سيزعج الكثيرين، ولكنها الحقيقة، فاعضاؤه
عرب اولا واخيرا، وليس مستغربا ان يواجه المصير نفسه الذي واجهته تجمعات ومجالس
عربية مماثلة مع فارق وحيد وهو ان حكومات الخليج لم تعد حريصة على اخفاء
خلافاتها او لم تعد تريد، بعضها او كلها، استمرار التكتم وكنس الخلافات تحت
السجادة والادعاء بالتضامن والتآلف وان كل شيء على ما يرام، فالاجيال الشابة التي
تشكل حوالي ستين في المئة من مجموع سكانه لم تعد تقبل ما قبله آباؤها في ظل ثورة
المعلومات والتطور الكبير في علوم الاتصال الجماهيري والاجتماعي وادواته.
صحيفة
رأي اليوم/ عبد الباري عطوان