17 أكتوبر 2013

د/مضاوي الرشيد:السعودية الى أين؟

  عندما يكون الافق السياسي منغلقا يرفض الانفتاح والتغيير ويتمنى ان يظل ملف الاصلاح السياسي مطويا الى اجل غير مسمى متجاهلا رغبة جماعية في نقلة نوعية باتجاه المشاركة السياسية وتمكين فعاليات المجتمع في اطار منظومة جديدة لمجتمع مدني يعبر عن اختلاف الاتجاهات السياسية والفكرية فيمتص التناحر والاستقطاب نجد ان المجتمع السعودي حاليا يخوض حربا ضد نفسه خاصة بعد ان تنوعت اطيافه واتجاهاته نتيجة عقود من تلقي افرازات فكرية أتت من الخارج او تبلورت في الداخل.


لم يجد هذا التنوع والاختلاف الحاضنة الآمنة لتتطور وتعبر عن نفسها بطريقة حضارية تأخذ من الحوار وحرية الطرح في حلقات آمنة مستقرة مع انغلاق الافق السياسي فاتجه الاختلاف الى جدل محتد داخليا يهرب الى العوالم الافتراضية فيطعن البعض بالآخر لدرجة شخصنة الصراعات ورفض الرأي المخالف بطريقة فجة تعكس حالة تشنج مجتمعية تفتقد لابسط معايير الحوار الحضاري وقد ظهرت السجالات رافضة ومتهجمة على الآخر الذي يختلف في الرأي في ظل غطاء سياسي محكم قبضته على المجتمع بثقله الامني المستشري والذي لم يترك ثغرة مجتمعية الا واخترقها فتحولت السجالات الى محاولة بائسة لكسب الحظوة عند السلطة وتمكين مشروعها هي وحدها على حساب المشاريع الاخرى التي تطرحها فئات اجتماعية تختلف معها في نظرتها الى الواقع الاجتماعي.

ويبدو السجال غير مهتم في الوصول الى حوار مع الآخر بل الى رفضه ونفيه والتشهير به واقصائه من الساحة في منافسة رهيبة بين تيارات اجتماعية من اجل كسب مقعد دائم على منصة السلطة السياسية لا يزيحها عنه الا القرار الحكومي وهذا من الطبيعي في مجتمع يفتقد لآليات التعبير عن أرائه ونظرته لمواضيع وقضايا تهمه تماما كما هو حال الملكية المطلقة التي تعتمد على بناء جسور مع شرائح منفصلة بعضها عن بعض اما ثقافيا او سياسيا او حتى طائفيا لتضمن تأجيل وحدة المجتمع واتفاقه على سلسلة من المطالب الملحة فتتجزأ هذه المطالب وتتبعثر لكنها تطل برأسها من خلال السجال حول مواضيع حية لا تخمد فتنظر السلطة الى السجالات الاجتماعية المحتدة كحالة انقسام دائمة خطرة وبذلك تكرس مفهوم وجودها الحتمي كحامي للسلم الاجتماعي والضامن للامن. وكلما ازدادت حدة الانقسامات والتناحر المشخصن بين افراد المجتمع تطمئن السلطة الى استمرارية التناحر والصراع الذي يبعد المجتمع عن حتى التفكير في توجيه مطالبه اليها فتحتفي السلطة ودورها في تحديد مسيرة التغيير في ظل الانقسام الحاصل ويلتهي المجتمع بمعاركه الصغيرة الفتاكة ويتمترس الجميع في خنادق عميقة غير قابلة على الرقي بنفسها نحو ايجاد ارضية مشتركة للمطالبة بالاصلاح السياسي.

وكلما ازدادت الهوة بين افراد المجتمع فكريا كلما بدت السلطة اكثر ارتياحا حيث تبتعد عنها الاصوات المنادية بهذا الاصلاح خاصة وانه لم ينتقل الى مطلب اجتماعي شامل بسبب الانقسامات التي تغذيها السلطة نفسها والتي هي نفسها مشتتة في مؤسسات كبيرة لكل منها وجهة نظر قد تتعارض مع سياسة الدولة في كل لحظة. فليس للدولة اجندة اصلاحية شاملة على المستوى السياسي وكل ما قامت به هذه اللحظة هو سلسلة من القرارات الجـزئية تتراكم دون ان تحدث نهضة سياسية حقيقية. وفي غياب المشـروع السياسي الشامل تظل سلسلة من القضايا المهمة عالقة منها.

اولا: قضية حقوق الانسان وان كانت الدولة قدمت مشروعها السلطوي وربطت القضية بمؤسسات خاضعة لها الا انها فشلت في ايجاد اطار مستقل لمنظمة مستقلة تستطيع ان تلاحق قضايا الانتهاكات دون المظلة الرسمية فجاءت جمعيات حقوق الانسان الحالية بصورة خاضعة للسلطة واجندتها غير قادرة ان تكون بالفعل مساحة مستقلة تستطيع ان تناصر قضايا مهمة كقضية المساجين السياسيين واكتفت بالعمل في المجال المجتمعي حيث تكون الانتهاكات بين افراد المجتمع ذاتهم وبذلك تجرد هذه المؤسسات من قدرتها على خوض المعركة ضد انتهاكات السلطة نفسها وظلت عاجزة عن التعاطي مع اهم الملفات السعودية العالقة بين افراد المجتمع والنظام ذاته.

ثانيا: تبنت السلطة مشروع تمكين المرأة وتصدرت النهضة على المستوى النسوي في المجال الاقتصادي والتعليمي ضمن اطار سلسلة من الاجراءات كبناء الجامعات والتوظيف والتعيين في مؤسسات السلطة ووزاراتها كمجلس الشورى ووزارة التربية والتعليم وصورت مثل هذه الاجراءات كقفزة نوعية بالمجتمع او نصفه في هذه الحالة لكنها فشلت في احداث تغيير حقيقي على مستوى عدم المساواة الحالية فانتقل الصراع المجتمعي من قضية الحقوق والمساواة الحقيقية ليصبح صراعا على موضوع قيادة المرأة للسيارة.

وهنا ينفجر هذا الصراع وكأنه الحلقة الاخيرة والمعركة الحاسمة بين تيارين احدهما يرفض بشدة السماح للمرأة بالقيادة وآخر يدافع عن هذا الحق فينقسم المجتمع مجددا بين هؤلاء ويصبح الصراع مساحة اخرى للتحارب بين ما يسمى التيار التغريبي والآخر الاسلامي المتشدد فتبدو الصورة منقسمة منشطرة بل متحاربة ومتقاتلة لا تجتمع الا على محاربة الآخر المختلف وتختفي الاصوات التي استطاعت ان تعبر خط التماس فقط لانها لا تتخندق خلف هذا الاتجاه او ذاك.

ثالثا: تأخذ الاختلافات العقدية والطائفية نفس المنحى حيث تتحول الى صراعات سياسية تعتمد على نفي الآخر المختلف وعدم التعاطي مع قضية من الواجب حلها من منطلق المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات فتغيب المطالب المشتركة وتستبدل بمطالب مفككة لا يجتمع عليها الطيف الاجتماعي المتنوع وبذلك يزداد الحشد الطائفي وتتعالى اصوات تطالب بتغيب الآخر وحتى مواجهته بالقوة والحزم.

وتفسر محاولات السلطة لاعطاء بعض الحقوق للآخر المختلف وكأنه تنازل وضعف وانتهاك لحقوق الأكثرية. فالكل يتصارع على كسب مكان في اولويات السلطة لانها كرست مفهوم مركزيتها ونفت المجتمع من ساحة صنع القرار وبذلك تكون قد اخترقت تفكير المجتمع انها وحدها القادرة على اخماد نار الطائفية المتأججة وبدونها يتحول المجتمع الى مجتمع شرس يفتك بعضه ببعض. فينطوي التعاطي مع الملف الطائفي ويصبح ملفا قابلا للسخونة او حتى الانفجار في اي لحظة وتتأجل مشاريع الاصلاح السياسي الحقيقي في ظل منظومة وجود عوامل تهدد الكيان بشكله الكلي وتصمت الاصوات المطالبة بهذا الاصلاح في ظل وتيرة الشحن الطائفي الذي تمارسه فئات مرتبطة بالسلطة ذاتها.

يشكل ما سبق نموذجا من المعارك السعودية الحالية والتي تأبى ان تخمد بل هي قابلة للتجديد والانفجار طالما ظل الافق السياسي منغلقا ينفي طرح مشروع الاصلاح الشامل الذي يستوعب الاختلافات حول قضايا اجتماعية مهمة.

ويأتي تعطيل الاصلاح السياسي في ظل بيئة اقليمية مشتعلة على المستوى العربي حيث تم بالفعل ربط مفهوم التغيير بالفوضى والاقتتال والتناحر في ذهنية الكثير من المراقبين على الساحة السعودية ذاتها. فكلما زادت وتيرة هذا التناحر في دول الجوار تشعر القيادة السعودية بالاطمئنان اذ ان نموذج التغيير السياسي يصبح مهددا لمكتسبات المجتمع السعودي المزعومة. فترتاح السلطة السياسية لعدم وجود نموذج ديمقراطي ناجح حتى هذه اللحظة في العالم العربي ممكن له ان يتحول الى مصدر الهام لمجتمعها الداخلي. من هنا جاءت محاولات السعودية لاستيعاب تبعيات التغيير العربي بل حتى تقويضه بصورة واضحة في الساحة المصرية مثلا كي لا يكون مصدر الهام يحتذى داخليا.

وتحول التغيير الى فوضى او فتنة يجب تجنبها في المدى القصير والبعيد حتى لا تتغير ملامح الخارطة السياسية العربية او تتجه نحو القليل من الاستقرار ومنذ بداية هذا التغيير العربي عادت السعودية كل التيارات الطامحة لتحول سياسي نحو الديمقراطية وظلت متشبثة بمشروع الحكم الفردي طامحة لاعادته واعادة انتاجه على الساحات العربية التي تخلصت او حاولت التخلص منه في بعض الدول العربية. وبغياب النموذج الديمقراطي تبدو القيادة السعودية اكثر اطمئنانا من السابق عندما اندلعت الثورات في انحاء متفرقة لان النموذج المستقر سيكشف الغطاء عن الساحة السعودية ذاتها وربما تتجه نحو المطالبة بوصول العدوى اليها وتجاوز المعارك الداخلية خاصة المجتمعية المذكورة. وستبقى السعودية مشغولة بمعاركها الداخلية على صعيد المجتمع دون ان تحسم السلطة السياسية اي جدل حالي لان بذلك تضمن انصراف هذا المجتمع عن المطالبة باطار سياسي منفتح يستطيع ان يحتوي الاختلاف والذي لا يستقر على اسس حضارية دون الاطار السياسي الذي يجمع عليه طيف كبير وجمهور عريض.

بقلم: مضاوي الرشيد 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق