خلال اكثر من مئة عام شهدت المنطقة العربية خطابات تدعو الى الوحدة ركزت على الهوية والتاريخ والدين كقواسم مشتركة وكانت كلها تتمحور حول جمع الكيانات المنبثقة خلال فترة ما بين الحربين العالميتين والتي رسمت حدود الكيانات العربية الجديدة تحت مظلة وان حافظت على الحدود الجديدة الا انها كانت تطمح لتجاوزها على صعيد السياسية والاقتصاد. من اهم هذه التيارات الفكرية التي تحولت الى مشاريع سياسية في اطار احزاب حاكمة التيار القومي العربي والذي تزامن انهيار خطابه بعد عام النكسة 1967 تتبلور خطاب اسلامي يدعو الى الوحدة الاسلامية متجاوزا المحيط العربي ومادا جسورا ابعد بكثير منه. تصدرت دول عربية معروفة الترويج للخطاب القومي الاول واخرى تبنت الطرح الثاني الاسلامي ودخلت المنطقة العربية بالذات صراعا مصطنعا بين اعلام التيارين خلال اكثر من نصف قرن انبثقت بعده خطابات 'الوطن اولا' نافية ما سبقها من شعارات دغدغت المشاعر والعواطف دون ان تؤصل لاي مؤسسة او محفل فاعل على الارض وبقيت المؤسسات الوحدوية العربية مثل الجامعة العربية والاسلامية العالمية غير قادرة على التعاطي مع ازمات المنطقة العربية الاسلامية السياسية او الاقتصادية الملحة واثبتت انها هيكليات مرتبطة بانظمة ديكتاتورية متسلطة رفعت شعارات كبيرة في محاولة هروب من فئويتها المحلية وممارساتها السياسية الاقصائية مما اسقط الشعارات ومهد لمناطقية بل لمنافسة حادة بين الانظمة ذاتها في محيطها الجغرافي المحدود من شمال افريقيا الى المشرق العربي. رغم السقوط السريع ظلت شعارات الوحدة ترفع لتجد امامها الكثير من التشكيك والتساؤل عن جدواها خاصة وان المنطقة برمتها قد بدأت تدخل في مرحلة جديدة يمكن وصفها بمرحلة المستنقعات الطائفية الضيقة والتي ساهمت في تعميقها ممارسات الانظمة التي رفعت اما شعارات العروبة او الوحدة الاسلامية. ورغم ان الانظمة نفسها لم تكن لها صبغة واحدة طائفية الا ان ممارسات القمع ذاتها ساهمت الى حد كبير في تأجيج خطابات معارضة تتمركز حول المحاور الطائفية.
خذ مثلا العراق حيث كان من الاسطورة والاكذوبة وصفه على انه كان خلال فترة حكم البعث نظاما سنيا صرفا او النظام السوري الحالي على انه نظام علوي واضح وصريح وكلاهما رفعا شعارات العروبة والوحدة والتضامن مع قضايا العرب العالقة. كانت وما زالت طبيعة الحكم في هذين البلدين تقوم على اساس وركيزة واحدة وهي الحكم المتفرد بالسلطة الذي يبني جسورا مع الجميع المستعدين للقبول بأصول اللعبة السياسية المبنية على الولاء مقابل صلاحيات في اجهزة الدولة والاحتفاظ بالمناصب الحساسة الامنية لتوزيعها على الاكثر ولاء وثقة وقد اتى هؤلاء من حلقة قريبة جدا من اعمدة النظام خاصة الفئات الاسرية او الاقليات الموالية والتي تخاف الاكثرية وسطوتها فتلجأ الى الحكم المستبد الذي يضمن لها بعض الصلاحيات مقابل الولاء المطلق. اثبتت الممارسات السياسية هذه انها الاناء الحاوي لتفجير الهويات الطائفية وتمحور صراعها مع الانظمة حول مطالب تنضوي تحت لواء خطابات التهميش والاقصاء وفقدان الهوية الضيقة رغم وجود رموز من طوائف واثنيات غير عربية في مؤسسات الانظمة. فالشيعة المنخرطون في نظام صدام والاكراد الذين حملوا بطاقة عضويتهم في حزب البعث كثر وكذلك في النظام السوري حيث الاقليات الكردية والاكثرية السنية والاقلية الدينية المسيحية والدرزية انخرطت في المشروع السوري وحتى هذه اللحظة لم ينفض بعضها عن النظام. وان كان هذا حال الممارسات السياسية في ظل الخطاب العروبي الوحدوي فحالة الخطاب الاسلامي الذي روجت له انظمة اخرى لم يكن احسن او افضل على مستوى الممارسة.
ان اخذنا السعودية كمثال على خطاب الوحدة الاسلامية ونصرة قضايا المسلمين والتفاخر بالملايين التي صرفت على نشر الاسلام من خلال مؤسسات ثقافية وتربوية وبناء المساجد نستطيع ان نجزم ان هذه الشعارات الكبيرة كانت وسيلة وذراع سياسية خارجية ذات مصالح ضيقة هدفها كسب موقع للمملكة كنظام اسلامي في المحيط الاسلامي الكبير وبالاخص للشخصيات القيادية في السعودية بالذات بدأ بالملك فيصل الذي تسلق على الخطاب الوحدوي الاسلامي وبعده فهد الذي اتخذ من خدمة الحرمين الشريفين ماركة مسجلة والآن عبدالله الذي فتح ملف حوار الاديان مستجديا بذلك شرعية عاطفية ابعد من حدود الاسلام لتصل الى مشاريع ومؤسسات تهدف الى حمل الشعار الفضفاضي الفارغ المرتبط بحوار الاديان وهو مشروع رومنتيكي للاستغلال الاعلامي البحت حيث جربته مؤسسات عالمية غير مرتبطة بالاسلام واثبتت ان التعايش السلمي بين الاديان والمتدينين لا يتم تحت مظلة الشعارات بل تحت ممارسة المساواة والتقيد بالقانون الذي يضمن الحقوق للانسان دون النظر الى دينه او طائفته او لون بشرته ورغم ذلك لا تنتفي التعديات على الاشخاص والمجموعات على المستوى الرسمي والشعبي في الدول التي تعتقد انها تطبق مبدأ المساواة والمواطنة. وتتحول محافل حوارات الاديان الى حفلات صاخبة لتبادل التحيات والقبل والتهنئة بالاعياد وان تخللتها ابحاث تقريبية عن الديانات المتعددة نجد هذه الابحاث لا تتجاوز محاولات تفرض التقارب وتبحث عن القواسم المشتركة او تعمق الهوة حسب اهداف القائمين على مثل هذه الدراسات.
اما على الصعيد المحلي فنجد ان تبني النظام السعودي لخطاب الوحدة الاسلامية لم يستطع ان يحتوي التعددية الدينية الموجودة في داخل الاسلام السني ناهيك عن التعددية بين هذا الاسلام والانماط المرتبطة بالطوائف الاخرى من شيعية الى اسماعيلية متواجدة على ارض المملكة.
فانبثق في ظل هذه الحالة اشد الخطابات طائفية واقصائية للمسلم السني الآخر ثم غيره من اتباع الطوائف الاسلامية المتعددة والمتنوعة وليس ذلك فحسب بل كانت ركيزة النظام السعودي الدينية من اشد واشرس المناوئين لمشروع الخلافة الجامعة للمسلمين كالخلافة العثمانية حيث كفروها وكفروا سلاطينها منذ القرن الثامن عشر ميلادي وساهموا عمليا في اسقاطها خلال الحرب العالمية الاولى بتعاونهم مع المشروع البريطاني ضد الخلافة العثمانية ولم يكونوا وحدهم في التعجيل بسقوط الخلافة العثمانية على اطرافها البعيدة بل تشاركوا في المشروع مع الشريف حسين الذي كان يطمح الى تولي منصب ملك العرب ولم يتم للمشروع النجاح المرتقب حيث كان المشروع البريطاني حينها سيد الموقف ومفروضا على المنطقة العربية. باستعراض هذه التيارات الوحدوية بشقها العربي او الاسلامي نستطيع ان نجزم ان اكثر من صوت جهوري رفع مثل هذه الشعارات لكنها كانت كلها مرتبطة بمشاريع ضيقة مرتبطة بتعزيز دعائم حكم انظمة وافراد معينين وانطلت هذه الشعارات على شرائح كبيرة في العالم العربي تجاوبت عاطفيا مع نداءات الوحدة.
واليوم بعد تعري هذه الخطابات نجد ان البدائل المؤسفة تنذر بعاقبة وخيمة فالمستنقعات الطائفية وطفيلياتها تتكاثر خاصة بعد حدثين مهمين اولهما احتلال العراق عام 2003 وثانيهما اندلاع الثورة السورية الحالية. فجاءت الحقبة التاريخية العربية وكأنها ستغرق في مستنقع بدأ مشروعه منذ فترة واثبت قدرته على جرف المنطقة الى الهاوية ولم يكن لهذا المستنقع ان يتأصل وتنمو فيه الطفيليات لولا الاسباب التالية: اولا الاستقطاب السعودي ـ الايراني ثانيا: ممارسات الانظمة القمعية الفئوية وثالثا التدخل الخارجي المساهم فعليا في اعادة رسم الخارجة الطائفية العربية. اثبت فشل المشروعين العروبي والاسلامي الوحدوي ان ارتباط الخطاب الثقافي ـ السياسي بأنظمة قمعية كفيل بانهياره وتحوله الى شعار لا اكثر ولا اقل. ووجدنا ان المتشدقين بالوحدة ايا كانت ركيزتها هم اكثر الممارسين للاقصاء والمعارضين للوحدة الحقيقية وهم من جروا المنطقة العربية الى مرحلة المستنقعات الطائفية. فالعرب ليسوا شعبا طائفيا لا يؤمن الا بالهويات الضيقة ولا يصطف الا خلف طوائف متنافسة ومتناحرة كما يريد اقناعنا المستشرقون العرب وغير العرب لكنهم يفرزون افرازات بشعة وقبيحة نتيجة عوامل داخلية وخارجية سياسية واقتصادية استطاعت ان تجعل الخيار الطائفي ومستنقعه يطفو على السطح كسمة ملازمة لدخول المنطقة الى القرن الواحد والعشرين.
' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
خذ مثلا العراق حيث كان من الاسطورة والاكذوبة وصفه على انه كان خلال فترة حكم البعث نظاما سنيا صرفا او النظام السوري الحالي على انه نظام علوي واضح وصريح وكلاهما رفعا شعارات العروبة والوحدة والتضامن مع قضايا العرب العالقة. كانت وما زالت طبيعة الحكم في هذين البلدين تقوم على اساس وركيزة واحدة وهي الحكم المتفرد بالسلطة الذي يبني جسورا مع الجميع المستعدين للقبول بأصول اللعبة السياسية المبنية على الولاء مقابل صلاحيات في اجهزة الدولة والاحتفاظ بالمناصب الحساسة الامنية لتوزيعها على الاكثر ولاء وثقة وقد اتى هؤلاء من حلقة قريبة جدا من اعمدة النظام خاصة الفئات الاسرية او الاقليات الموالية والتي تخاف الاكثرية وسطوتها فتلجأ الى الحكم المستبد الذي يضمن لها بعض الصلاحيات مقابل الولاء المطلق. اثبتت الممارسات السياسية هذه انها الاناء الحاوي لتفجير الهويات الطائفية وتمحور صراعها مع الانظمة حول مطالب تنضوي تحت لواء خطابات التهميش والاقصاء وفقدان الهوية الضيقة رغم وجود رموز من طوائف واثنيات غير عربية في مؤسسات الانظمة. فالشيعة المنخرطون في نظام صدام والاكراد الذين حملوا بطاقة عضويتهم في حزب البعث كثر وكذلك في النظام السوري حيث الاقليات الكردية والاكثرية السنية والاقلية الدينية المسيحية والدرزية انخرطت في المشروع السوري وحتى هذه اللحظة لم ينفض بعضها عن النظام. وان كان هذا حال الممارسات السياسية في ظل الخطاب العروبي الوحدوي فحالة الخطاب الاسلامي الذي روجت له انظمة اخرى لم يكن احسن او افضل على مستوى الممارسة.
ان اخذنا السعودية كمثال على خطاب الوحدة الاسلامية ونصرة قضايا المسلمين والتفاخر بالملايين التي صرفت على نشر الاسلام من خلال مؤسسات ثقافية وتربوية وبناء المساجد نستطيع ان نجزم ان هذه الشعارات الكبيرة كانت وسيلة وذراع سياسية خارجية ذات مصالح ضيقة هدفها كسب موقع للمملكة كنظام اسلامي في المحيط الاسلامي الكبير وبالاخص للشخصيات القيادية في السعودية بالذات بدأ بالملك فيصل الذي تسلق على الخطاب الوحدوي الاسلامي وبعده فهد الذي اتخذ من خدمة الحرمين الشريفين ماركة مسجلة والآن عبدالله الذي فتح ملف حوار الاديان مستجديا بذلك شرعية عاطفية ابعد من حدود الاسلام لتصل الى مشاريع ومؤسسات تهدف الى حمل الشعار الفضفاضي الفارغ المرتبط بحوار الاديان وهو مشروع رومنتيكي للاستغلال الاعلامي البحت حيث جربته مؤسسات عالمية غير مرتبطة بالاسلام واثبتت ان التعايش السلمي بين الاديان والمتدينين لا يتم تحت مظلة الشعارات بل تحت ممارسة المساواة والتقيد بالقانون الذي يضمن الحقوق للانسان دون النظر الى دينه او طائفته او لون بشرته ورغم ذلك لا تنتفي التعديات على الاشخاص والمجموعات على المستوى الرسمي والشعبي في الدول التي تعتقد انها تطبق مبدأ المساواة والمواطنة. وتتحول محافل حوارات الاديان الى حفلات صاخبة لتبادل التحيات والقبل والتهنئة بالاعياد وان تخللتها ابحاث تقريبية عن الديانات المتعددة نجد هذه الابحاث لا تتجاوز محاولات تفرض التقارب وتبحث عن القواسم المشتركة او تعمق الهوة حسب اهداف القائمين على مثل هذه الدراسات.
اما على الصعيد المحلي فنجد ان تبني النظام السعودي لخطاب الوحدة الاسلامية لم يستطع ان يحتوي التعددية الدينية الموجودة في داخل الاسلام السني ناهيك عن التعددية بين هذا الاسلام والانماط المرتبطة بالطوائف الاخرى من شيعية الى اسماعيلية متواجدة على ارض المملكة.
فانبثق في ظل هذه الحالة اشد الخطابات طائفية واقصائية للمسلم السني الآخر ثم غيره من اتباع الطوائف الاسلامية المتعددة والمتنوعة وليس ذلك فحسب بل كانت ركيزة النظام السعودي الدينية من اشد واشرس المناوئين لمشروع الخلافة الجامعة للمسلمين كالخلافة العثمانية حيث كفروها وكفروا سلاطينها منذ القرن الثامن عشر ميلادي وساهموا عمليا في اسقاطها خلال الحرب العالمية الاولى بتعاونهم مع المشروع البريطاني ضد الخلافة العثمانية ولم يكونوا وحدهم في التعجيل بسقوط الخلافة العثمانية على اطرافها البعيدة بل تشاركوا في المشروع مع الشريف حسين الذي كان يطمح الى تولي منصب ملك العرب ولم يتم للمشروع النجاح المرتقب حيث كان المشروع البريطاني حينها سيد الموقف ومفروضا على المنطقة العربية. باستعراض هذه التيارات الوحدوية بشقها العربي او الاسلامي نستطيع ان نجزم ان اكثر من صوت جهوري رفع مثل هذه الشعارات لكنها كانت كلها مرتبطة بمشاريع ضيقة مرتبطة بتعزيز دعائم حكم انظمة وافراد معينين وانطلت هذه الشعارات على شرائح كبيرة في العالم العربي تجاوبت عاطفيا مع نداءات الوحدة.
واليوم بعد تعري هذه الخطابات نجد ان البدائل المؤسفة تنذر بعاقبة وخيمة فالمستنقعات الطائفية وطفيلياتها تتكاثر خاصة بعد حدثين مهمين اولهما احتلال العراق عام 2003 وثانيهما اندلاع الثورة السورية الحالية. فجاءت الحقبة التاريخية العربية وكأنها ستغرق في مستنقع بدأ مشروعه منذ فترة واثبت قدرته على جرف المنطقة الى الهاوية ولم يكن لهذا المستنقع ان يتأصل وتنمو فيه الطفيليات لولا الاسباب التالية: اولا الاستقطاب السعودي ـ الايراني ثانيا: ممارسات الانظمة القمعية الفئوية وثالثا التدخل الخارجي المساهم فعليا في اعادة رسم الخارجة الطائفية العربية. اثبت فشل المشروعين العروبي والاسلامي الوحدوي ان ارتباط الخطاب الثقافي ـ السياسي بأنظمة قمعية كفيل بانهياره وتحوله الى شعار لا اكثر ولا اقل. ووجدنا ان المتشدقين بالوحدة ايا كانت ركيزتها هم اكثر الممارسين للاقصاء والمعارضين للوحدة الحقيقية وهم من جروا المنطقة العربية الى مرحلة المستنقعات الطائفية. فالعرب ليسوا شعبا طائفيا لا يؤمن الا بالهويات الضيقة ولا يصطف الا خلف طوائف متنافسة ومتناحرة كما يريد اقناعنا المستشرقون العرب وغير العرب لكنهم يفرزون افرازات بشعة وقبيحة نتيجة عوامل داخلية وخارجية سياسية واقتصادية استطاعت ان تجعل الخيار الطائفي ومستنقعه يطفو على السطح كسمة ملازمة لدخول المنطقة الى القرن الواحد والعشرين.
' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق