تأتي الثورات بوجوه متعددة ونتائج متباينة كتباين المجتمعات التي تفرزها وتحتضنها، لكنها تخضع لمعايير ومفاهيم مشتركة.
فالثورة حسب أشهر المنظرين لها اكاديميا تعتبر عملا جماعيا هدفه تقويض النخب السياسية الحاكمة واحداث هزة تنال من سيطرة النخب الاقتصادية والاجتماعية والدينية المرتبطة بالحكم المستبد، حسب تعريف سيدني تارو، التقليدي المستمد من دراسات عميقة للثورات القديمة، كالثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وبعدها الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي، الا ان الثورات الحديثة التي سميت بثورات مخملية او ثورات الالوان في اوروبا الشرقية كانت وان اختلفت عن سابقاتها الا انها انطلقت من نفس المفاهيم، كالرغبة في كسر احتكار السلطة السياسية والاقتصادية والتمهيد لانظمة تكون اكثر انفتاحا وشفافية عن الانظمة القديمة، وعندما جاء الربيع العربي تمت اعادة النظر في تعريفات الثورة لتشمل الحالة العربية التي تميزت بمعطيات جديدة، أهمها غياب الشخصيات الكاريزمية فلم تعرف هذه الثورات بطلا ثوريا، او حتى حزبا واحدا يقودها، بل انطلقت من كاريزما جماعية تبلورت في الميدان الثوري رغم مشاركة قوى سياسية واقتصادية قديمة في حراكها خلال فترة طويلة، الا ان هذه القوى ظلت غير قادرة على جمع فصائل المجتمع، حتى جاءت اللحظة الثورية فانخرط تحت سقفها طيف من العمال والطلاب والناشطين والناس غير المسيسين، مما مهد للقوى السياسية التقليدية ان تستثمر اللحظة الثورية الآنية وتخرج بحصة الاسد من الحراك الشعبي الجمعي.
ونجد ان المناطق العربية الموجود فيها مثل هذه القوى استطاعت ان تتجه الى مرحلة ما بعد الثورة، من دون الكثير من الصراع الدموي الذي يتلازم بالضرورة مع انهيار النظام السابق وتلاشي سيطرته على مرافق الدولة والمجتمع، فلم تنهر مؤسسات الدولة بل تم تدريجيا الانتقال الى مرحلة جديدة لا تزال في بدايتها ولكنها في طور الاستقرار تماما، كما حصل في تونس ومصر.
الا ان الثورات الاخرى التي تلت ذلك اتسمت بكثير من العنف والتخبط والتدخل الخارجي العالمي او الاقليمي بمباركة قوى محلية اقليمية فترنحت وتأجلت، بل اجهض بعضها اما بالتدخل العسكري المباشر او بالمناورة تحت شعار مبادرات عالمية واقليمية، اما لانها اعتبرت غير قادرة بسلميتها الاولى ان تقوض النظام المتمكن عسكريا والقابل لقمعها، او لانها شكلت خطرا حقيقيا على دول الجوار التي نذرت نفسها لقتلها وهي في مهدها، وهذا ما يحصل في بلد كتونس ومصر لكنه اتضح في ليبيا واليمن والبحرين، والآن في سورية، مما يجعل الثورة اما معتمدة في نجاحها على التدخل الخارجي او عليه في فشلها والقضاء عليها، ففي هذه الثورات تتضح صورة الشق الآخر في العالم العربي الثوري، الذي لم يستطع النجاح الا في حالة تصعيد التدخل كما هو الحال في ليبيا، او في حالة احتواء الثورة، كما حصل في اليمن والبحرين، وتظل سورية حالة خاصة حتى هذه اللحظة، رغم التدخل الواضح والصريح من قبل القوى الاقليمية والعالمية بثورتها.
ومن الصعب تاريخيا ان نجد ثورة ما ظلت شأنا محليا مستقلا وهكذا كانت الثورات العربية الحديثة تتبع النمط التقليدي المعروف، بل انها ربما حالة مكثفة كشفت الغطاء عن مدى ترابط المنطقة مع قوى عالمية تصارعت ولا تزال تتصارع على ارضها من الولايات المتحدة وروسيا والصين، الى قوى اقليمية تطمح للهيمنة، منها تركيا وايران والسعودية ودول الخليج الصغيرة، حيث برزت هذه القوى كمحرك مهم وبوابة للتدخل العالمي بيد اقليمية ولهذه القوى اسبابها في تصعيد التدخل الاقليمي، من اهمها اولا: الحفاظ على علاقات سياسية واقتصادية مع الدول في مرحلة الثورة او ما بعدها.
وثانيا: التوجس من ان يطالها المد الثوري، خاصة انها قريبة جغرافيا وقد يكون لها اما حدود مشتركة مع الثورة او امتداد بشري على طرفي الجغرافيا كالحدود السورية ـ التركية او السعودية ـ البحرينية والسعودية ـ اليمنية وثالثا الخوف من افرازات الثورة التي تطيح بالطاقم الحاكم القديم وتأتي بطاقم جديد قد يناصبها العداء ويرفض التبعية لدولة الجوار، وثالثا: تحاول دول الجوار ان تحد من تبعيات الثورة المجاورة كتدفق اللاجئين والاسلحة والعمل الثوري بكافة اشكاله خوفا على وضعها الداخلي، لذلك قد تتصدر اما مساعدة الثورة الملتهبة او قمعها بالتدخل المباشر فتكون لها الصدارة في احتواء حالة ما بعد الثورة والتمهيد لعلاقة اكثر التصاقا بجارتها لتضبط تداعيات التغيير وتحكم سيطرتها على الدولة المجاورة مستقبلا. فيصبح التغيير او عدمه سياسة تلتزم بها القوى الاقليمية لانها تتحول الى قضية امن قومي داخلي بالنسبة لدولة الجوار.
يتبين التدخل الاقليمي السافر السعودي في ثلاث ثورات، حيث اتجه الى قمع الثورة في البحرين بطريقة مباشرة واحتوائها في اليمن ومساندتها في سورية، مما يطرح اسئلة كثيرة على الدور السعودي في المنطقة. اعتبرت السعودية الاطاحة بالنظام البحريني خطرا مباشرا لانه ينذر بتغيير اولي لمنظومة الحكم الملكي المشيخي، الذي تأصل ليس فقط في السعودية بل في منطقة الخليج كلها فحاولت جاهدة لتصوير الثورة البحرينية كثورة طائفية مدعومة من قوة اقليمية ايرانية تنافس السعودية على المنطقة لتحافظ على المنظومة الملكية بشكلها القائم وتبعد خطر السابقة التاريخية البحرينية عن تفشيها في محيطها القريب فلا تريد السعودية نظاما جمهوريا في الخليج فتتهاوى العروش بعد ذلك واحدا تلو الاخر.
اما في اليمن الجمهورية اصلا ارادت السعودية احتواء تداعيات الثورة التي تنذر بتغيير الطاقم الحاكم المستقطب سعوديا والتابع سياسيا واقتصاديا فجاءت المبادرة السعودية لتنقذ هذا الطاقم القديم ومعه علاقات التبعية مع الرياض، فاليمن يظل خلية نحل متحركة تتقاطع فيها المصالح العسكرية والاقتصادية والقبلية والمناطقية والطائفية، بالاضافة الى الايديولوجيات من اقصى اليمين الى اقصى اليسار مع مصالح سعودية بحتة، لذلك ان كان التدخل العسكري المباشر السعودي غير متوقع، كما حصل في البحرين، الا ان التدخل اتخذ اشكالا متفرقة ومتنوعة من دبلوماسية الى سياسية واقتصادية وتدعيم علاقات زبونية مشخصنة مع الفعاليات اليمنية من اجل احتواء الثورة اليمنية وتداعياتها واصدائها في المملكة ذاتها.
اما في الثورة الثالثة السورية نجد السعودية داعما قويا للثورة ماديا ومعنويا، ليس لان السعودية نفسها تعيش نشوة تغيير ديمقراطي فريد او حاملة لشعارات الحرية والعدالة بل لان السعودية التي صادقت القيادة السورية سابقا ودعمتها ماديا تحولت في علاقتها مع النظام السوري الى العداوة مؤخرا، بسبب علاقة هذا الاخير الحميمة مع ايران، فالسعودية تطمح من خلال دعم التغيير في سورية الى هزيمة ايران في المنطقة وحليفها 'حزب الله' وليس دعم تطلع الشعب السوري الى نظام ديمقراطي يمثل الشرائح السياسية والاقتصادية السورية. فليس من الممكن لنظام يقمع اي حراك سياسي داخليا ان يكون مناصرا للديمقراطية في بلد عربي مجاور وهذا لا يخفى على الفعاليات السورية الثورية والعسكرية والسياسية، التي تقلصت خياراتها عندما ترنحت ثورتها تحت الرصاص النظامي الذي اطلق عليها. وان ارتمت بعض هذه القيادات في الحضن السعودي فهي أجبرت على ذلك وفرضت عليها هذه الاستراتيجية الآنية بسبب المواجهات الدامية والخسائر البشرية التي وقعت في صفوفها منذ بداية الثورة السلمية في درعا. فخرجت الثورة السورية من نطاقها المحلي لتتحول الى حرب اقليمية بالوكالة يخوضها معسكران، ايراني ـ روسي ـ سوري من جهة ومعسكر ثوري سعودي ـ قطري ـ امريكي من جهة اخرى يهندس تفاصيلها ويومياتها المحور التركي المتوجس من تبلور كانتون كردي على حدوده الجنوبية السورية والجنوبية الشرقية العراقية، مما ينذر بصراع سوري ـ سوري دموي قد يستمر لفترة طويلة الا اذا حدثت مفاجآت او صفقات سرية بين القوى الكبرى المتصارعة على الارض السورية. ويبقى الجرح السوري ينزف يوميا نتيجة التصعيد العسكري في مواجهة الثورة داخليا وتدفق الاسلحة بأشكالها المختلفة الى الطرف الآخر. لقد قطع النظام السوري الطريق على اي تسوية سلمية والتنازل عن السلطة تماما كما زاد التدخل الخارجي من حدة المواجهات اليومية وحمامات الدم.
تمثلت السياسية السعودية في ثلاث صور تجاه الثورات، فاتخذت صورة القمع المباشر في البحرين وصورة الاحتواء في اليمن وصورة الدعم الواضح في سورية وكلها استراتيجيات تهدف الى غاية واحدة وهي السيطرة على الوضع السياسي بشكل يضمن عدم تهديد نظامها داخليا وهي استراتيجية محلية صرفة لتصرف رياح التغيير عن حدودها ولكن هل ستنجح السعودية في تأجيل ملف التغيير السياسي الى اجل غير مسمى؟
نعتقد ان من الصعب على النظام السعودي ان يوقف عجلة التغيير مهما استعرض عضلاته خارجيا لان القوى التي اطاحت بالانظمة العربية القمعية وان كانت لا تزال ضعيفة في السعودية الا انها تزداد تبلورا في الداخل السعودي نفسه وهي تتعلم دروسا في الحراك مجانية، رغم ان ثمنها باهض يؤدي الى السجن وحتى المواجهة الدموية. وان انشغل الداخل السعودي بمراقبة الثورات العربية الملتهبة الا انه سيعود يوما الى التفكير بوضعه الداخلي الذي يبقى نشازا سياسيا فريدا من نوعه في منطقة تغلي بالطموحات السياسية، وسيأتي اليوم الذي تعترف فيه القيادة السعودية ان الحكم التسلطي قد فات اوانه والمؤامرات الخارجية لن تكون يوما ما تعويضا عن التغيير الجذري في الداخل السعودي.
' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
فالثورة حسب أشهر المنظرين لها اكاديميا تعتبر عملا جماعيا هدفه تقويض النخب السياسية الحاكمة واحداث هزة تنال من سيطرة النخب الاقتصادية والاجتماعية والدينية المرتبطة بالحكم المستبد، حسب تعريف سيدني تارو، التقليدي المستمد من دراسات عميقة للثورات القديمة، كالثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وبعدها الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي، الا ان الثورات الحديثة التي سميت بثورات مخملية او ثورات الالوان في اوروبا الشرقية كانت وان اختلفت عن سابقاتها الا انها انطلقت من نفس المفاهيم، كالرغبة في كسر احتكار السلطة السياسية والاقتصادية والتمهيد لانظمة تكون اكثر انفتاحا وشفافية عن الانظمة القديمة، وعندما جاء الربيع العربي تمت اعادة النظر في تعريفات الثورة لتشمل الحالة العربية التي تميزت بمعطيات جديدة، أهمها غياب الشخصيات الكاريزمية فلم تعرف هذه الثورات بطلا ثوريا، او حتى حزبا واحدا يقودها، بل انطلقت من كاريزما جماعية تبلورت في الميدان الثوري رغم مشاركة قوى سياسية واقتصادية قديمة في حراكها خلال فترة طويلة، الا ان هذه القوى ظلت غير قادرة على جمع فصائل المجتمع، حتى جاءت اللحظة الثورية فانخرط تحت سقفها طيف من العمال والطلاب والناشطين والناس غير المسيسين، مما مهد للقوى السياسية التقليدية ان تستثمر اللحظة الثورية الآنية وتخرج بحصة الاسد من الحراك الشعبي الجمعي.
ونجد ان المناطق العربية الموجود فيها مثل هذه القوى استطاعت ان تتجه الى مرحلة ما بعد الثورة، من دون الكثير من الصراع الدموي الذي يتلازم بالضرورة مع انهيار النظام السابق وتلاشي سيطرته على مرافق الدولة والمجتمع، فلم تنهر مؤسسات الدولة بل تم تدريجيا الانتقال الى مرحلة جديدة لا تزال في بدايتها ولكنها في طور الاستقرار تماما، كما حصل في تونس ومصر.
الا ان الثورات الاخرى التي تلت ذلك اتسمت بكثير من العنف والتخبط والتدخل الخارجي العالمي او الاقليمي بمباركة قوى محلية اقليمية فترنحت وتأجلت، بل اجهض بعضها اما بالتدخل العسكري المباشر او بالمناورة تحت شعار مبادرات عالمية واقليمية، اما لانها اعتبرت غير قادرة بسلميتها الاولى ان تقوض النظام المتمكن عسكريا والقابل لقمعها، او لانها شكلت خطرا حقيقيا على دول الجوار التي نذرت نفسها لقتلها وهي في مهدها، وهذا ما يحصل في بلد كتونس ومصر لكنه اتضح في ليبيا واليمن والبحرين، والآن في سورية، مما يجعل الثورة اما معتمدة في نجاحها على التدخل الخارجي او عليه في فشلها والقضاء عليها، ففي هذه الثورات تتضح صورة الشق الآخر في العالم العربي الثوري، الذي لم يستطع النجاح الا في حالة تصعيد التدخل كما هو الحال في ليبيا، او في حالة احتواء الثورة، كما حصل في اليمن والبحرين، وتظل سورية حالة خاصة حتى هذه اللحظة، رغم التدخل الواضح والصريح من قبل القوى الاقليمية والعالمية بثورتها.
ومن الصعب تاريخيا ان نجد ثورة ما ظلت شأنا محليا مستقلا وهكذا كانت الثورات العربية الحديثة تتبع النمط التقليدي المعروف، بل انها ربما حالة مكثفة كشفت الغطاء عن مدى ترابط المنطقة مع قوى عالمية تصارعت ولا تزال تتصارع على ارضها من الولايات المتحدة وروسيا والصين، الى قوى اقليمية تطمح للهيمنة، منها تركيا وايران والسعودية ودول الخليج الصغيرة، حيث برزت هذه القوى كمحرك مهم وبوابة للتدخل العالمي بيد اقليمية ولهذه القوى اسبابها في تصعيد التدخل الاقليمي، من اهمها اولا: الحفاظ على علاقات سياسية واقتصادية مع الدول في مرحلة الثورة او ما بعدها.
وثانيا: التوجس من ان يطالها المد الثوري، خاصة انها قريبة جغرافيا وقد يكون لها اما حدود مشتركة مع الثورة او امتداد بشري على طرفي الجغرافيا كالحدود السورية ـ التركية او السعودية ـ البحرينية والسعودية ـ اليمنية وثالثا الخوف من افرازات الثورة التي تطيح بالطاقم الحاكم القديم وتأتي بطاقم جديد قد يناصبها العداء ويرفض التبعية لدولة الجوار، وثالثا: تحاول دول الجوار ان تحد من تبعيات الثورة المجاورة كتدفق اللاجئين والاسلحة والعمل الثوري بكافة اشكاله خوفا على وضعها الداخلي، لذلك قد تتصدر اما مساعدة الثورة الملتهبة او قمعها بالتدخل المباشر فتكون لها الصدارة في احتواء حالة ما بعد الثورة والتمهيد لعلاقة اكثر التصاقا بجارتها لتضبط تداعيات التغيير وتحكم سيطرتها على الدولة المجاورة مستقبلا. فيصبح التغيير او عدمه سياسة تلتزم بها القوى الاقليمية لانها تتحول الى قضية امن قومي داخلي بالنسبة لدولة الجوار.
يتبين التدخل الاقليمي السافر السعودي في ثلاث ثورات، حيث اتجه الى قمع الثورة في البحرين بطريقة مباشرة واحتوائها في اليمن ومساندتها في سورية، مما يطرح اسئلة كثيرة على الدور السعودي في المنطقة. اعتبرت السعودية الاطاحة بالنظام البحريني خطرا مباشرا لانه ينذر بتغيير اولي لمنظومة الحكم الملكي المشيخي، الذي تأصل ليس فقط في السعودية بل في منطقة الخليج كلها فحاولت جاهدة لتصوير الثورة البحرينية كثورة طائفية مدعومة من قوة اقليمية ايرانية تنافس السعودية على المنطقة لتحافظ على المنظومة الملكية بشكلها القائم وتبعد خطر السابقة التاريخية البحرينية عن تفشيها في محيطها القريب فلا تريد السعودية نظاما جمهوريا في الخليج فتتهاوى العروش بعد ذلك واحدا تلو الاخر.
اما في اليمن الجمهورية اصلا ارادت السعودية احتواء تداعيات الثورة التي تنذر بتغيير الطاقم الحاكم المستقطب سعوديا والتابع سياسيا واقتصاديا فجاءت المبادرة السعودية لتنقذ هذا الطاقم القديم ومعه علاقات التبعية مع الرياض، فاليمن يظل خلية نحل متحركة تتقاطع فيها المصالح العسكرية والاقتصادية والقبلية والمناطقية والطائفية، بالاضافة الى الايديولوجيات من اقصى اليمين الى اقصى اليسار مع مصالح سعودية بحتة، لذلك ان كان التدخل العسكري المباشر السعودي غير متوقع، كما حصل في البحرين، الا ان التدخل اتخذ اشكالا متفرقة ومتنوعة من دبلوماسية الى سياسية واقتصادية وتدعيم علاقات زبونية مشخصنة مع الفعاليات اليمنية من اجل احتواء الثورة اليمنية وتداعياتها واصدائها في المملكة ذاتها.
اما في الثورة الثالثة السورية نجد السعودية داعما قويا للثورة ماديا ومعنويا، ليس لان السعودية نفسها تعيش نشوة تغيير ديمقراطي فريد او حاملة لشعارات الحرية والعدالة بل لان السعودية التي صادقت القيادة السورية سابقا ودعمتها ماديا تحولت في علاقتها مع النظام السوري الى العداوة مؤخرا، بسبب علاقة هذا الاخير الحميمة مع ايران، فالسعودية تطمح من خلال دعم التغيير في سورية الى هزيمة ايران في المنطقة وحليفها 'حزب الله' وليس دعم تطلع الشعب السوري الى نظام ديمقراطي يمثل الشرائح السياسية والاقتصادية السورية. فليس من الممكن لنظام يقمع اي حراك سياسي داخليا ان يكون مناصرا للديمقراطية في بلد عربي مجاور وهذا لا يخفى على الفعاليات السورية الثورية والعسكرية والسياسية، التي تقلصت خياراتها عندما ترنحت ثورتها تحت الرصاص النظامي الذي اطلق عليها. وان ارتمت بعض هذه القيادات في الحضن السعودي فهي أجبرت على ذلك وفرضت عليها هذه الاستراتيجية الآنية بسبب المواجهات الدامية والخسائر البشرية التي وقعت في صفوفها منذ بداية الثورة السلمية في درعا. فخرجت الثورة السورية من نطاقها المحلي لتتحول الى حرب اقليمية بالوكالة يخوضها معسكران، ايراني ـ روسي ـ سوري من جهة ومعسكر ثوري سعودي ـ قطري ـ امريكي من جهة اخرى يهندس تفاصيلها ويومياتها المحور التركي المتوجس من تبلور كانتون كردي على حدوده الجنوبية السورية والجنوبية الشرقية العراقية، مما ينذر بصراع سوري ـ سوري دموي قد يستمر لفترة طويلة الا اذا حدثت مفاجآت او صفقات سرية بين القوى الكبرى المتصارعة على الارض السورية. ويبقى الجرح السوري ينزف يوميا نتيجة التصعيد العسكري في مواجهة الثورة داخليا وتدفق الاسلحة بأشكالها المختلفة الى الطرف الآخر. لقد قطع النظام السوري الطريق على اي تسوية سلمية والتنازل عن السلطة تماما كما زاد التدخل الخارجي من حدة المواجهات اليومية وحمامات الدم.
تمثلت السياسية السعودية في ثلاث صور تجاه الثورات، فاتخذت صورة القمع المباشر في البحرين وصورة الاحتواء في اليمن وصورة الدعم الواضح في سورية وكلها استراتيجيات تهدف الى غاية واحدة وهي السيطرة على الوضع السياسي بشكل يضمن عدم تهديد نظامها داخليا وهي استراتيجية محلية صرفة لتصرف رياح التغيير عن حدودها ولكن هل ستنجح السعودية في تأجيل ملف التغيير السياسي الى اجل غير مسمى؟
نعتقد ان من الصعب على النظام السعودي ان يوقف عجلة التغيير مهما استعرض عضلاته خارجيا لان القوى التي اطاحت بالانظمة العربية القمعية وان كانت لا تزال ضعيفة في السعودية الا انها تزداد تبلورا في الداخل السعودي نفسه وهي تتعلم دروسا في الحراك مجانية، رغم ان ثمنها باهض يؤدي الى السجن وحتى المواجهة الدموية. وان انشغل الداخل السعودي بمراقبة الثورات العربية الملتهبة الا انه سيعود يوما الى التفكير بوضعه الداخلي الذي يبقى نشازا سياسيا فريدا من نوعه في منطقة تغلي بالطموحات السياسية، وسيأتي اليوم الذي تعترف فيه القيادة السعودية ان الحكم التسلطي قد فات اوانه والمؤامرات الخارجية لن تكون يوما ما تعويضا عن التغيير الجذري في الداخل السعودي.
' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق