جاء تقرير منظمة العفو الدولية ليدين بشكل واضح وصريح ممارسات النظام السعودي وانتهاكه لحقوق الانسان وخاصة انعدام حرية الرأي والسجن التعسفي واحكام القضاء الجائرة بحق طيف كبير من الناشطين ليميط اللثام عن سلسلة طويلة من التعديات على الاشخاص تشهدها المملكة منذ بدء الربيع العربي وتحت ضغط موجة المطالبة بالحقوق ورفض الاستبداد بكافة أشكاله.
وطالبت منظمة العفو الدولية باطلاق سراح المساجين السياسيين والتحقيق بقضايا تعذيب المساجين من قبل لجنة مستقلة وتعديل قانون مكافحة الارهاب حسب معايير دولية وتنقيح تعريفات الارهاب حتى لا تشمل تجريم المعارضة السلمية وحرية الرأي وتهديد اصحاب الرأي بالفصل من العمل والتضييق بسبب آرائهم ومواقفهم وتقليص هيمنة وزارة الداخلية على القضاء ومفاصل الدولة وكلها حسب هذا التقرير الاخير ممارسات ممنهجة وثابتة وليست حالات فردية تقع المسؤولية فيها على اشخاص في الجهاز الاداري والقضائي والأمني.
وحدد التقرير اسماء بعض المعتقلين في السجون السعودية مدعوماً بأسماء معتقلين منهم من تقدم بطلب لتأسيس حزب سياسي وآخر شارك في مظاهرة سملية وثالث خرج يستفسر عن سجن والده ومنهم الناشط الحقوقي وعالم الدين والاستاذ جامعي وأكثرهم من حملة الشهادات وذوي المعرفة مما يدل ان اكثرية المساجين في السعودية ليسوا من الرعاع والغوغائيين بل من النخب التي رفضت ممارسات القمع والتهميش وطالبت بحقوق مشروعة كحرية التجمع وتأسيس المجتمع المدني والتظاهر والاعتصام السلمي وكلها تحولت تحت مظلة النظام الى جرائم تهدد أمنه واستمرارية أساليبه في الحجر على المواطنين وتقليص مساحات الحرية والفكر.
ويحارب النظام السعودي اي شخص يثبت ان له فكرا مستقلا ويبرز على الساحة السياسية او الحقوقية ويجمع حوله حلقة تكبر من المتابعين والناشطين الذين يستسيغون آراءه ويتعاطون معها. وان دلت اعداد المساجين الكبيرة على شيء فهي تدل على ان المجتمع السعودي اليوم ليس بمعزل عن القضايا الحقوقية التي شغلت العالم العربي وادت الى اندلاع ثورات في دوله المختلفة تاريخياً واجتماعياً وثقافياً. واسقط المساجين هؤلاء منظومة الخصوصية السعودية التي لا يتمسك بها الا النظام وبعض المرتبطين به والذين يلوحونها في وجه تقرير منظمة العفو الدولية والحقوقيين في الداخل فان منع النظام التظاهر وقلص الحريات فهذا من باب الخصوصية السعودية والتي تعتمد على شقين الأول الخصوصية الاسلامية والثاني الخصوصية الثقافية والاجتماعية فتحت ذريعة الاسلام اصبح النظام ينتهك الحقوق المدنية والانسانية والسياسية بمظلة الشريعة وتطبيقها في بلد يعتبر انه الوحيد الملتزم بها بحكم كونه قبلة المسلمين ولكن السؤال المطروح هو الى متى يظل الاسلام حسب تطبيقاته في السعودية مسؤولاً عن الانتهاكات التي فصلها التقرير الحقوقي الأخير؟
من المؤسف ان يستحضر النظام الاسلام عند كل مناسبة ويزج في مفاهيمه السامية لتغطية ممارساته القمعية خاصة بعد أن انكشفت هذه المزاعم على الصعيد الداخلي والخارجي وان كانت مرجعية منظمة العفو الدولية تظل مفاهيم شاملة وعامة تبلورت تحت مظلة القانون الدولي الا ان فضح السرديات السعودية جاء من الداخل وبمرجعية دينية تنبثق من الاسلام ذاته وهذا ما ظهر واضحاً وجلياً من خلال استعراض فكر هؤلاء الذين يسجنهم النظام واكثرهم لم يرجعوا الى القانون الدولي بل رجعوا الى الاسلام والشريعة لصياغة مفاهيم جديدة للحكم الراشد ومفهوم الحقوق في دولة اسلامية.
تتعارض وتفضح الممارسات اليومية التي يشهدونها على الساحة السعودية تحت مظلة تفسيرات منغلقة للشريعة ومقاصدها من حماية للنفس والمال والعقل والحرية اذاً نحن هنا امام مشروع سعودي اسلامي رسمي ينتهك الحقوق باسم الدين ومشروع آخر ينبثق من الدين ليفكك طلاسم القمع وممارساته. ومن هنا تكمن معضلة التبريرات السعودية التي لوحت بها في وجه الانتقادات العالمية التي لخصتها تقارير منظمات حقوقية خارج المملكة.
فالذين يسجنون اليوم ليسوا بدعاة تغريب وفساد اخلاقي يريدون هتك مسلمات المجتمع المسلم التقي بل هم دعاة حقوق اجهدهم فكرهم في محاولة للخروج من مأزق الدولة التي تدعي الحكم باسم الاسلام وتعاليمه. ولم تكن مرجعية هؤلاء اطروحات عصر التنوير والحداثة الغربية بل جاءت من صميم الفكر الاسلامي ومفاهيمه في محاولة لتطوير مفهوم الدولة الحديثة في مجتمع مسلم ومن هنا لن يستطيع النظام ان يقنع طيفا كبيرا من المراقبين لقضاياهم باطروحة الخصوصية الاسلامية وان كان هناك من خصوصية فهي تنبثق من خصوصية سعودية بحتة من اهم خصائصها الزج باسلام تطور ونما تحت مظلة الحكم الشمولي التسلطي الاسري الذي يظل رافضا لمبدأ الحقوق الانسانية والسياسية من اجل استمرارية هذا النمط الطارئ الذي نما تحت هيمنة اقلية قليلة تتآكل شرعيتها بسبب الممارسات الحالية. وان كان من السهل على اي نظام في العالم ان يحشد المجتمع خلفه عند اندلاع العنف الا ان النظام السعودي لم يستطع ان يخمد الاصوات المنادية بالاصلاح السياسي من منطلقات اسلامية خاصة وان هذه الاصوات لم تمارس العنف ولم تدع اليه. من هنا تكمن المشكلة السعودية والتي لا تجد الحلول الا في الاعتقال وتلفيق تهم الارهاب على الناشطين الذي فصل اسماءهم تقرير منظمة العفو الدولية الاخير.
اما الخصوصية الثانية التي تستحضر فهي ترتبط بطبيعة المجتمع الثقافية والاجتماعية ومنها التخفي وراء انتهاكات حقوق الانسان تحت مظلة قبلية المجتمع فيدافع النظام عن هذه الانتهاكات تحت ذريعة حفظ الامن في مجتمع قبلي ان اتيحت له المزيد من الحريات كحرية التعبير والتجمع والتظاهر فستنفجر فيه النعرات القبلية منذرة بتمزق النسيج الاجتماعي والوطني لذلك هو يضطر لان يحجر على حرياته ويقلص حقوقه خوفا عليه من آفاته الثقافية وانتماءاته الضيقة.
وفي هذه السردية الرسمية صورة مزيقة واعتراف النظام بفشل مشروعه الوطني وان كان بالفعل يظل المجتمع قبليا رغم قرن من الوعظ والارشاد وتنمية الروح الوطنية على حساب الهويات الضيقة الا ان استحضار الخوف من القبلية هو ايضا ذريعة قاصرة على تبرير حالة التضييق وتقليص مساحات المشاركة السياسية.
ومعادلة القمع مقابل الخوف من تفجر النعرات القبلية لا يمكن ان تصمد او تستمر حيث ان الكثير من دعاة الاصلاح هم ابناء قبائل ولم يدعوا هؤلاء لمناصرة قبائلهم بل دعوا الى اصلاح شامل لمؤسسات تصمد امام امتحانات الوطنية في مرحلة لم يعد يقبل فيها المجتمع اساليب الممارسة السياسية الاقصائية التي لا تعترف الا بحكمة النظام ورموزه. ولو كان هؤلاء من دعاة انفصال او تمجيد لعصر القبيلة لكان من السهل على النظام ان يزج بهم في خانة الانفصاليين لكنهم برهنوا في حراكهم أنهم لا يسترجعون أمجاد عصور القبلية الغابرة بل يطمحون الى مستقبل تفعل فيه مفاهيم الوطنية الحقيقية بعيدا عن رفع الاعلام في الايام الوطنية واحتفالاتها او في ملاعب الكرة وضجيجها.
لذلك هم اليوم في السجن بينما غيرهم من المتملقين والمتزلفين يظلون احرارا طلقاء يستدعون في المناسبات الرسمية لينظموا القصيد والمديح والاطراء على ألسنة شعراء القبيلة وكأن النظام يخاف من القبيلة بينما هو يصبو الى ثقافتها السمعية والمرئية لتضفي عليه شرعية التناغم بين رموزه وأطياف المجتمع المختلفة والمتنوعة. وان كان النظام يعتقد انه يستطيع ان يستمر في مصادرة الحريات تحت ذريعة الخوف من القبلية الا انه يصطدم بوعي اجتماعي جديد يتزايد يوما بعد يوم خاصة في حلقات الحوار والنقاش عند شريحة كبيرة من المجتمع التي تجاوزت الخطاب القبلي ووصلت بالفعل الى مفاهيم الوطنية فصاغت لنفسها هوية جديدة ابعد من القبيلة ونطاقها الضيق وتبنت مصطلحات الحقوق للجميع والقانون فوق الجميع بما فيهم رموز الحكم وهذا ما يضاعف ارتجاف النظام امام التقارير التي تدينه وتدين ممارساته فالمجتمع نفسه بدأ يرفض الفئوية والاستئثار بالسلطة من منطلقات جديدة تهدد ديمومتها بشكلها القديم وتفسح المجال لتخيل مستقبل افضل تنعدم فيه الخصوصية حتى يلتحق المجتمع بمفاهيم العدالة الحقيقية وليس العدالة المزعومة تحت مظلة تفسيرات محدودة للدين وثقافة المجتمع.
وان كان للنظام السعودي فرصة اخيرة فيجب عليه التوقف ولو للحظة على التغيرات الحاصلة في العالم العربي حيث لم يقف الاسلام ولا التنوع الاجتماعي في وجه موجة المطالبة بالحقوق والحريات.
وهو اليوم لا يحكم مجتمعا جامدا بل هو متحرك وحراكه يمر في مراحل سليمة وقناعات ستصمد امام المزيد من القمع والانتهاكات التي لم تثن بعض الناشطين عن الاستمرار في مطالبهم وبلورة رؤيتهم المستقبلية بطريقة اسقطت القناع عن اكثر الانظمة العربية سرية وخبثا حيث يستحضر الاسلام والثقافة في مواجهة تحول تاريخي لن تكون السعودية بمنأى عنه. لقد عكس عدد المساجين في السعودية ان المجتمع لم يعد ينتظر الاصلاح الذي يأتي بعد انتظار البيان التالي من القيادة الرشيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق