وتظل عملية توطين التقنية من المهام الصعبة المحفوفة بالمد والجزر في البيئة المستقبلة فتقسم المجتمع بين متحمس وممانع متلهف للجديد وآخر يحذر من عواقبه ورسالته والقيم المتعلقة والمرتبطة به. وتشتد المعركة خاصة في مجتمع كالمجتمع السعودي حيث انفتح على التقنية بسرعة لم يشهدها الكثير من الشعوب الاخرى الا جاراتها في الخليج حيث اجتمعت الثروة النفطية مع رغبة في تسلق سلم التقنية بسرعة ايضا والانخراط في استهلاك آخر انتاجات التقنية. فمنذ بداية القرن العشرين شهدت الساحة السعودية جدلا واسعا حول سلسلة طويلة من الاشياء الحديثة بدأ بالسيارة والمذياع والتلفزيون ومؤخرا اطباق الارسال الفضائي والفاكس وآخرها جدل حول تويتر ومخاطره رسالة خرجت من رحم المؤسسة الدينية تحذر من عواقبه وعواقب الرسائل التي يحملها. اثارت هذه التقنيات جدلا لانها تقنيات تحمل صفة الانتقال السريع والتواصل الحقيقي والافتراضي وتتشبع بمعايير وثقافة تعتبر حاملة للمخاطر والتحول في المفاهيم. لنبدأ بالسيارة اولا والتي جاءت في بداية القرن الماضي لتسهل التواصل والنقل والسفر فكانت نتيجتها القضاء على نمط حياتي ووسيلة نقل قديمة تتمثل بالقافلة والبعير. واهم من ذلك قضت السيارة على اسلوب حياة تتميز بالترحال لكن المجتمع تبنى هذه التقنية ولكنه حصر استعمالها في نصف المجتمع واستمر حتى هذه اللحظة في منع النساء من قيادتها وجاء هذا من باب الاصرار على كبح جماح هذه الايقونة الثورية.
قد يستغرب البعض كيف ان السيارة تتحول الى ايقونة ثورية لكنها بالفعل كذلك فهي ليست وسيلة نقل سريعة ومريحة بل هي اكثر من ذلك بكثير حيث انها تحمل من المعاني الجديدة على المجتمع السعودي والذي يحرمها على المرأة. السيارة ليست بالتقنية المحايدة بل هي منغمسة في معاني وثقافة تحاول السلطات السعودية ان تستثني المرأة منها. من هذه المعاني التي تحملها السيارة الفردية والاستقلالية وعدم الاتكال على الآخرين والرمزية التي تعكس الثراء والطبقة الاجتماعية بل حتى هوية صاحبها والتي تتمثل في انواعها والوانها وحجمها وسرعتها وعدد ابوابها وسقفها ففي مجتمع هبط عليه الثراء فجأة نجدها من اكثر المتحمسين لاقتناء هذه الايقونة الثورية الجديدة وليس بالمستغرب ان السعودية تأتي بالمرتبة الرابعة عالميا في استيراد اغلى السيارات من ماركة الرولزرويز. ورغم ان المرأة السعودية تستطيع ان تقتني السيارة وتمتلكها الا انها لا تستطيع قيادتها حيث فقط قيادتها لهذه الآلة تعكس المعاني الاكثر خطرا في منظور بعض اطياف المجتمع واهمها الحرية الشخصية وفردية التنقل وعدم الاتكال على الآخرين. فالسيارة ايقونة فريدة في مجتمع استهلاكي يحاول جاهدا ان يستهلك دون ان يمتص المعاني المرتبطة بالاشياء المستهلكة وأهم من ذلك نجد السيارة توفر مساحة بين الخاص والعام ففيها يجد الانسان السائق والراكب نفسه محاطا بالعالم حوله لكنه يحتكر حيزا صغيرا من السرية، فراكب السيارة غير راكب القطار والباص لانه موجود في المكان العام ولكنه ايضا غير موجود مما يوفر له بعض التواري عن الانظار وهذا ما يشكل تحديا لمجتمع يحاول جاهدا ان يفصل بشدة بين الخاص والعام ومن هذا يظل منع المرأة من قيادة السيارة قائما حتى اشعار آخر.
وكما السيارة خلقت معضلات عالقة في المجتمع جاء مؤخرا تويتر لينسف الحد الفاصل بين ما يقال وما لا يقال وكغيره من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والمفترض ان تكون افتراضية الا انها تحولت في السعودية الى عالم حقيقي يشكل خطرا على الشخص المشارك في مساحاته كما يشكل خطرا على حالة السرية والحجر على حرية التعبير، المعتمدة في السعودية ومن هنا نبه مفتي السعودية الى خطر تويتر ورسائله حيث تتحول هذه الرسائل الى ايقونات ثورية تهدد اعمدة الاستبداد الديني ـ السياسي المرتبط بالنظام السعودي ونشأته. وليس بالمستغرب ان السعودية قد ضربت الرقم القياسي في استعمال هذه التقنية الجديدة التي وفرت مساحات للتواصل في غياب مؤسسات مجتمع مدني مستقلة لا تخضع للرقابة والتجسس. ظهر تويتر في بيئة امريكية وبالتحديد في جامعة هارفرد حيث طوره شخص يريد التواصل مع اصدقائه في محيط الجامعة وتطورات الحلقة لتشمل جامعات اخرى ومن ثم تم تسويقه كوسيلة اتصال مباشرة بين مؤسسات وأفراد همهم نقل المعلومة والتعليق عليها دون حسيب او رقيب. ومن هنا تكمن تحفظات السعودية وخاصة مؤسستها الدينية على مثل هذه التقنية. ولم تمضِ مدة طويلة حتى سقط في مأزقها احد الكتاب الشباب المدعو حمزة كشغري والذي نشر جملا تعتبر تطاولا على الذات الالهية والرسول لتتزامن مع عيد المولد النبوي. اعتقد كشغري ان تويتر حرية مطلقة ولم يفرق بين الحرية والتعدي على المقدسات فأثار زوبعة عارمة لا يعرف حتى هذه اللحظة الى اين ستنتهي به وتكاثرت دعوات القتل على صفحات تويتر والتي ربما لم يخطر ببال مخترع تويتر وقد يكون مصدوما بما آلت اليه تقنيته الثورية التي تحولت الى ساحة محكمة تفتقد الى ابسط دعائم المحاكم.
لم يكن تويتر يوما ما مؤهلا لان يكون محكمة لا تستوعب الا 140 حرفا ولكن انتقاله الى بيئة غير بيئته زج به في معارك محترمة في السعودية نتيجة عملية تراكمية تعاون فيها السياسي والديني على تجييش المجتمع والزج به في معارك دينية واجتماعية في محاولة هروب من مواجهة واقع سياسي متخلف لم يعد يواكب تطلعات فئة واسعة من المجتمع. ممارسات النظام السعودي خلال العقود السابقة انتجت مجتمعا مغيبا سياسيا لا يجد متنفسا الا عن طريق القضايا الاجتماعية فيصطف هذا المجتمع في خطين متوازيين لا يلتقيان وهكذا تريده السلطة السياسية التي افرزت حالة تشنج لم يعرفها هذا المجتمع الا تحت قيادة سعودية مزقت تراثه الديني السابق وزرعت مكانه معسكرات جاهزة للانقضاض على فريسة جديدة كل يوم، نعارض وندين التعدي على مقدساتنا تماما كما عارضنا استفزازات الكارتون الدنماركي ومحاضرة البابا وافلام تنتقص من ديننا ويخطئ من يعتقد ان التعدي على رموز دينية هو حرية مطلقة فتدنيس المساجد والتبول على المصاحف ليس حرية بل انتهاكا لمقدسات الآخر واعمال شنيعة لا يقوم بها الا العنصري المتطرف المستفز والتهكم على الله والرسول ليس كوميديا ضاحكة للتسلية او شعرا راقيا وأدبا حداثيا رفيع المستوى. لكن نرفض ايضا التسرع باطلاق الاحكام وتعليق المشانق على تويتر قبل التحقيق والتدقيق قد يكون تويتر سهل صلب البشر وسرع حدة التأزم في مجتمع لا يزال محروما من ابسط انواع الحرية في مرحلة بدأ يتململ من الحجر عليه فأختلطت على كشغري حدود هذه الحرية الفجائية فسطر جمله القصيرة متجاوزا حدودا قديمة لن تتحول تحت مظلة التقنية الثورية الى مباح ومقبول. وحسمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء الامر واصدرت بيانا اشارت فيه ان ما كتبه كشغري هو من اعظم انواع الكفر وطالبت ولاة الامر محاكمته شرعا لانه كافر مرتد عن الاسلام وهنا ليس من باب الدفاع عن كاشغري لكن يبدو ان الهيئة تحاول غسل ماضي وحاضر تهميشها لتستعيد بعض رونقها في نظام تجاوزها وجعلها رقيبا على كل شيء ما عداه حيث صلاحياتها تتوقف وتتعثر عند عتبات القصور والمراسيم الملكية، فوجدت في هذه القضية فرصة تاريخية لتتجاوز محدوديتها وتهميشها. تماما كالسيارة سابقا وتويتر الآن تبقى التكنولوجيا الحديثة وسائل تحمل معاني وقيم ليس من السهل ان تستوعبها كل المجتمعات دون جدل وان تهافت عليها البعض واكثر من اقتنائها الا ان قيمها دوما تصطدم بقيم البيئات المستوردة لها فتحاول هذه البيئات ترويضها واذلالها والتضييق عليها او استعمالها لغير الاهداف الكامنة وراء اختراعها وتسويقها فكما يمكن ان تكون التقنية ايقونة ثورة الا انها تتحول في بعض البيئات الى ايقونات تثبت القيم السائدة بل تدعمها بسرعة انتشارها واختراقها للمجتمع افقيا بشكل واسع وكبير. فان كان تويتر رمزا للحرية والتواصل كما اراده مخترعه الا انه بسهولة يتحول الى طريق وعر يستغله المتطرف والعنصري. وستبقى العلاقة مع التقنية علاقة متشنجة محتقنة طالما اننا لسنا من يخترعها ويصدرها بل نحن دوما من يستوردها ويحتار في معانيها.
' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق