ليس من المستغرب ان تظل الدولة السعودية تبحث عن هوية وشعار تلصقه بها، خاصة في عصر الثورات العربية. في الماضي تقمص النظام مصطلح دولة التوحيد وحليفه جند التوحيد ليكرس في المخيلة ازدواجية توحيد الارض والبشر من جهة والتوحيد بمفهومه الديني من جهة اخرى، لكن مؤخرا ظهر ولي العهد السعودي بمصطلح جديد يطرح للتداول والنقاش على ألسنة المتلقين من مختلف الاطياف الفكرية والسياسية، وأسقط على النظام السعودي مصطلح الدولة السلفية، فصفق البعض وتحفظ البعض الآخر حيث وجدوا في هذا المصطلح حيزا ضيقا لا يحتوي على هوية الدولة الاسلامية الشاملة.
وهنا ليس لنا ان نقيم مدى انطباق الاسم على المسمى او صلاحية مثل هذا الوصف لنظام طارئ لم تثبت بعد هويته، بل هي في طور التغير حسب المعطيات السياسية الآنية، وانما نحاول فهم الطرف التاريخي الآني، الذي دفع بهذا المصطلح للواجهة كهدية واسم لنظام حديث العهد بالعمق التاريخي في قاموس الدول. هناك عدة اسباب تدفع بالنظام السعودي للترويج لمصطلح كهذا، خاصة في المحيط العربي المتغير والمتبدل. السبب الاول ينطلق من رغبة نظام الحكم ان يدغدغ مشاعر جمهوره السلفي التقليدي الموالي للسلطة والمدافع عنها، والممانع لاي تغيير يطرأ على مؤسساتها لما في ذلك من هزيمة لمصالحه التاريخية المرتبطة بالنظام. ويعتبر هذا الجمهور السلفي متطرفا في ولائه للنظام محرما اي شكل من اشكال العمل السياسي، بل هو ينفي عن المواطن والمجتمع صفة العمل السياسي او المشاركة في صنع القرار، ويحرم الحراك الجماعي السلمي المطالب بالحقوق، ولا يزال هذا التيار يتمسك بصلاحياته والمؤسسات التي سمح له النظام باحتلالها وتثبيت سلطته عليها وتوزيع شخصياته على المناصب المتوفرة فيها من هيئات فقهية وتعليمية وقضائية واجتماعية وخيرية.
ورغم ان هذا التيار السلفي المحدود فكريا والمنتشر افقيا قد تلقى ضربات قاسية من السلطة ذاتها وبعض اطياف المجتمع، الا ان فضله على النظام يحتاج ليس فقط الى المكرمات من مبدأ المكافأة، بل ايضا هو يطلب الاعتراف به كهوية تلازم الدولة الملكية المطلقة المعتمدة على الحكم الاسري المتشعب. من هنا جاءت شعارات كشعار الدولة السلفية لتكافئ هذه الشريحة على جهدها في قمع اي حراك شعبي وتكفيره والزج به في خندق الفتنة وغيرها من مصطلحات شاعت تحت عباءة هذه الشريحة الدينية السلطوية. السبب الآخر وراء استدعاء هذا المصطلح في المرحلة الراهنة هو التغيرات الطارئة في العالم العربي.
كان النظام السعودي يفتخر انه النظام الاسلامي الذي يطبق الشريعة عكس الجمهوريات العربية، التي كان ضمنيا عن طريق سلفيته يروج لها وكأنها بؤر كفر والحاد قامت على يد اشخاص كانت المؤسسة الدينية السعودية السلفية قد اصدرت احكامها عليهم وكفرتهم منذ اكثر من اربعة عقود، لكن اليوم وبعد سقوط هذه الرؤوس القديمة تواجه السعودية تحديا جديدا يتمثل في هويات الكيانات الجديدة المنبثقة عن مخاضات الربيع العربي، ومن اهم التحديات هو وصول اسلاميين من اطياف متعددة، منها الاخواني والسلفي الى برلمانات منتخبة وكلها تستمد مناهجها من تفسيرات ومبادئ اسلامية وهذا ما يجعل النظام السعودي يهتز لمثل هذه النتائج التي تفضح مقولة احتكاره للاسلام وتطبيق الشريعة، ومن المفارقات ان تكون دولة تدعي الاسلام تحتقن من بروز الاسلاميين في دول عربية اخرى هم ايضا يستمدون شرعيتهم من شعارات اسلامية صرفة ستخضع لحظة ممارسة السلطة للامتحان القادم. لذلك تبدو هوية الدولة السعودية الاسلامية الشاملة كأنها تتعرض للمنافسة بعد فترة احتكار الاسلام عندما كان النظام يعتبر نفسه الاول والاخير في مسيرة الدول الاسلامية.
ومن هنا جاء الشعار الجديد السلفي ليفرق بين دول اسلامية شاملة كالتي بدأت ملامحها تظهر في العالم العربي وبين ما يسمى بالخصوصية السعودية التي تمثلت في رفع مصطلح الدولة السلفية مؤخرا.
السبب الثالث هو كون السعودية بنظامها الحالي تفتقد لمعطيات وآلية المؤسسات السياسية، حيث انها لا تزال دولة فئوية تقوم على الحكم الاسري الوراثي، بينما تقدم بعض الاحزاب الاسلامية في المنطقة مشروعا لنظام الحكم يعتمد على مبادئ اسلامية ويجمع بينها وبين مؤسسات حديثة كالمجالس المنتخبة والدستور المكتوب وقوانين الاحزاب، وكلها مؤسسات جديدة جاءت مع مفهوم الدولة الحديثة.
واكثر ما يزعج النظام السعودي هو المزج بين الهوية الاسلامية والديمقراطية التي قد تتبلور في بعض الدول العربية كتونس ومصر، خاصة ان نتائجها في بلد مثل تركيا جاءت بنقلة نوعية في الممارسة السياسية والنمو الاقتصادي. وعندما ترفع الدولة السعودية شعار الدولة السلفية حسب المفهوم الضيق للمصطلح، الذي ينظر له طيف كبير من علماء المملكة الرسميين فهي تحاول جاهدة ان تتميز عن الحدث الطارئ على الساحة العربية، وهو هذا المزج بين الهوية الاسلامية وآليات الديمقراطية التي طالما اعتبرها منظرو السلفية السعودية نظاما خارجا عن التقليد الاسلامي المعترف به في نصوصهم ومراجعهم. وان جاء هذا المزج من جماعة الاخوان المسلمين فعادة يسلط النظام السعودي عليه خطب أئمته، خاصة تلك التي تطعن بالآخرين من منطلق عقائدهم المميعة وحزبيتهم المقيتة واهدافهم السياسية على حساب المعايير الدينية الثابتة، في محاولة بائسة لسحب البساط من تحت اقدام مريدي هذا التيار في الداخل السعودي، واسوأ من ذلك بحسب معايير النظام السعودي هو ان تخرج تيارات من رحم السلفية ذاتها، التي يحاول ان يتقمصها، تطالب بتفعيل معاني سياسية حديثة تستمد شرعيتها من تفسيرات مغايرة لتلك التي تطرحها الفصائل السلفية المرتبطة بالاسلام السعودي الموالي للسلطة المطلقة. وقد ظهرت بالفعل تيارات سلفية تشارك بالانتخابات وتطالب بصياغة دساتير للحكم وتقتنع بالتعددية وتلح على حق الأمة بانتخاب رئيسها وتشارك في الانتخابات منذ فترة غير قصيرة. وان كان من السهل على النظام السعودي ان يطعن بالتيارات السلفية التي استعملت العنف في سبيل مشروعها، الا انه ليس من السهل ان يحيد التيارات السلفية الجديدة والتي تتبنى مشروع العمل السياسي السلمي كالانتخابات والمظاهرات والعصيان المدني، ولا تعتبر مثل هذه الآليات خروجا على الحاكم او فتنة تشق الصف.
جاء شعار الدولة السلفية الذي يتبناه ولي العهد السعودي باهتا غير قادر على استيعاب الساحة الاسلامية المتشعبة والمتنوعة، ليس فقط في خارج حدود السعودية بل في عقر دارها وضمن المؤسسات القائمة حاليا. وبعد ان كثرت الطروحات السياسية الاسلامية يجد النظام السعودي حاجة ماسة الى اعادة تثبيت هويته امام هذا الزخم من التيارات والممارسات، التي هي ايضا تنهل من نفس المناهل الفكرية والدينية التي يعتقد انه تأسس على اصولها. وفي الماضي كان من السهل على النظام ان يكتفي بشعار الدولة الاسلامية في بيئة عربية تختلف عما هو في طور البزوغ حاليا، ولكنه اليوم في صدد منافسة من الهويات الجديدة على ماهية النظام ومنابعه وآليات عمله ومدى اقترابه من منظومة الدولة الحديثة التي لا تقضي على خلفيات عقدية اثنية او طائفية، بل تحاول ان تحتضن الاختلاف والتعددية. وان قدر للمشاريع العربية ان تكتمل وتنضج فستكون معيارا جديدا ينافس في شرعيته وهويته الكيان السعودي الذي حتى هذه اللحظة لم يطور اي مؤسسات حديثة لممارسة السياسة وتدبير الشأن العام خارج اطار مفاهيم حكم قديمة قائمة على الاستئثار بالسلطة التي تخضع لها كافة مؤسسات الدولة من مالية وقضائية وتربوية واجتماعية وتحكم عن طريق حلقات الولاء المشخصنة وتبني مفهوم محدود للمواطنة مبني على الولاء المطلق لشخص الحاكم وليس لوطن او دولة مؤسسات. لكن يبدو ان اسقاط شعار الدولة السلفية لن يحل ازمة النظام السعودي الوجودية، حيث يبدو يوما بعد يوم وكأنه خارج اطار الزمان والمكان في منطقة عربية تموج فيها مصطلحات جديدة عن الحقوق والمؤسسات والتمثيل الشعبي وفصل السلطات وكلها يحاول النظام السعودي ان لا تصبح متداولة في محيطه، خاصة ان امتزجت هذه المفاهيم الجديدة بنبش للتراث الاسلامي واستلهام المبادئ من تاريخه القديم في محاولة تقريب الارث الماضي مع متطلبات اللحظة التاريخية الحالية. وبعد ان تبنى النظام السعودي مصطلح السلفية كهوية تتردد على السنة المسؤولين لا بد من طرح السؤال الحرج. عن اي سلفية يتحدث، خاصة بعد ان تشظت وتفرعت تياراتها؟ وان كان يقصد تياره الموالي فلا نعتقد ان المرحلة الحالية بكافة انجازاتها ومخاضاتها مهيأة لتقبل تيار ضيق همه الاول المحافظة على صلاحيات من اهمها التقييد على البشر في حياتهم وحرمانهم من ابسط حقوقهم المدنية والسياسية تحت ذريعة درء الفتن.
' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق