يخيف التحول التاريخي المصري الذي اوصل جماعة الاخوان المسلمين الى سدة الحكم في البرلمان والرئاسة، النظام السعودي وحتى هذه اللحظة لم يحسم النظام موقفه ويرتب صفوفه ليخرج باستراتيجية جديدة يتعامل فيها مع التغيير على الساحة العربية في شمال افريقيا وخاصة اكبر دولة عربية ذات ثقل تاريخي وثقافي وبشري.
فمصر لا زالت تشهد تحولات قد تؤثر على المنطقة تماما كما كانت خلال العصور السابقة سياسيا وفكريا. ومنذ الخمسينات تعاملت السعودية مع مصر من مبدأ التوجس والحيطة فعادتها تارة وابتزتها تارة اخرى الى ان استقر الوضع بتثبيت تبعية اقتصادية تحت هيمنة النفط السعودي، ووجدت السعودية سابقا في مصر وتياراتها السياسية خطرا يهدد المنظومة السعودية المطلقة الوراثية وارتاحت السعودية عندما بدت مصر وكأنها جمهورية ملكية تتشابه مع السعودية وتشترك معها في منظومتها السياسية فتقلصت القواسم المشتركة تحت حكم الملكية والجمهورية واشتركتا في الحكم الاسري والقمع والواسطة والتوريث السياسي والفساد، وان كانت مصر تفتقد لموارد السعودية النفطية الا انها دعمت من قبل السعودية طالما ظلت تدور في فلكها وتسند سياساتها في المنطقة.
وبخلع مبارك اختلطت الامور وفتحت صفحة جديدة من التأهب والتساؤلات عن طبيعة هذه العلاقة المشوبة بالحذر والتنافس والريبة منذ اكثر من نصف قرن.
عادت السعودية مصر الناصرية واستغلت الاسلام لمحاربتها واحتضنت التيارات التي قمعت في مصر والتي استندت على شرعية اسلامية كالاخوان المسلمين في حربها، ليس فقط على مصر بل على التيارات الاخرى اليسارية والقومية، فامتطت السعودية اسد الاسلام الهارب ووظفته في مشروع تقزيم المد الثوري العربي حينها، لكنها وجدت في هذا المد الاسلامي المنظم صاحب الخلايا المنتشرة في العالم العربي واوروبا خطرا وجوديا عليها كدولة تستمد شرعيتها من اسلام ترعرع في احضان السلطة واعتمد على خطاب الولاء للحاكم وعدم التعرض لشرعيته حتى وان خالفت ابسط مفاهيم الفقه السياسي فغيب هذا الفقه واستبدل بخطب الوعظ والارشاد مكرسا جهده في انتاج شرائح اجتماعية موالية للسلطة مكتفية بشق واحد من الاسلام وهو شق العبادات تاركة تدبير الشأن العام الى حفنة صغيرة من الامراء والبيروقراط المؤتمرين بأمرهم حتى نفت عن الاسلام المشروع الكبير وجعلته سلسلة طويلة من الحلال والحرام الذي لا يقوض استبداد او طغيان فجاء الاسلام السعودي كوجه اسلامي يخص الفرد واخلاقه ويطبق على المجتمع بآلة قمعية لا تقبل اي تعددية وقضاء يستحضر احكاما ويسقطها على اي متهم بعمل سياسي ويخرج بكل حراك شعبي في خانة الخروج على ولي الامر او الافتئات عليه والتعدي على ذاته تحت ستار تطبيق الشريعة الاسلامية.
وتحول اسد الاسلام السعودي الى وحش تسلطه السلطة السياسية على الناشطين والمطالبين بحقوقهم ووفر الارهاب ذريعة اخرى لامتطاء الاسد مرة اخرى فجند النظام السعودي قضاته ليسقطوا الاحكام على نيات البشر وافكارهم دون تقديم الدليل الذي يستقي عادة من الافعال.
بعد الثورة المصرية وجد الاسد السعودي نفسه في منافسة حادة مع الاسد المصري الذي وصل الى عرينه عن طريق انتخاب شعبي شارك فيه الملايين من المصريين واكتسب شرعية ليس من نظام الوراثة المعتمد في السعودية بل من مبدأ بسيط وهو ولاية الامة وليس الامراء. خروج الاسد المصري اولا من السجون وثانية من منظومة الخلية السرية امطاردة والمحاصرة وبدأ العمل السياسي المعلن الذي يخضع لمحاسبة الجمهور ورغم ان الوقت قصير لتقييم التجربة المصرية الجديدة الا انها بلا شك ستكون المقياس الذي ستقيم حسبه التجربة الاسلامية ليس فقط في مصر بل في العالم العربي. وسيعلم الاخون المسلمون في مصر ان اداءهم في واجهة الحكم سيكون حاسما ليس للتجربة المصرية بل لمشروع اكبر من مصر وهي تجربة الاسلام السياسي والاحزاب السياسية المعتمدة على شرعية اسلامية ومنهج اسلامي وسيكتشف اخوان مصر ان النظرية تبقى نظرية حتى يتم تطبيقها وتعطي نتائج ملموسة وهذا ما سيحدد نجاحها او فشلها قطريا واقليميا وربما عالميا، سينتظر جمهور الاحزاب الاسلامية وغيرهم ممن لا ينتمون لتياراتها تطبيق نظرية استمر مخاضها لفترة طويلة في ظل ظروف سياسية متنوعة بدأ بالاستعمار الخارجي والملكيات المطلقة والاخرى الدستورية والجمهورية العسكرية وحتى هذه اللحظة لم تمارس الاحزاب الاسلامية السياسة في ظل انفتاح سياسي وديمقراطية حقيقية تعتمد على مبدأ تداول السلطة.
فبقي الاسد الاسلامي يترنح مهاجرا تارة الى خارج الحدود حاملا السلاح الحقيقي او سلاح الوعظ والارشاد ومتخفيا خلفه ليضمن استمرارية خلف الكواليس وبعيدا عن اضواء السلطة الى ان جاءت فرصته التاريخية مع الثورات العربية. وستبقى التجربة قيد الدرس حتى تكتمل وتأتي بالثمار الموعودة ان هي اتت.
وطالما بقيت التجربة في اولها ستجد السعودية الفرصة في قطع الطريق عليها من اجل تقويضها قبل ان تكتمل ممارستها السياسية ومن هنا الخطاب السعودي الرسمي المنتشر على صفحات الجرائد الرسمية والذي يشكك ويهول من اخطار تسلط وتفرد الاخوان المسلمين بالسلطة في مصر ولا يكتفي الاسد السعودي الحائر بأمره بالطعن بالاخوان بل يتجاوز ذلك ليشمل الاحزاب السياسية السلفية ذات المشروع الرافض للملكية الوراثية والمتقبل لفكرة الانتخابات ومجالس الشورى ويشكل اليوم الاخوان المسلمون والسلفية المشاركة في الحكم عن طريق الانتخاب الخطر الاكبر على المنظومة السعودية المستأسدة.
ويجري حاليا الطعن في مصداقية الاخوان من مبدأ تمييع العقائد والتساهل في بعض الامور ويروج البعض لصور حسن البنا عندما زار السعودية في الثلاثينات من القرن المنصرم وقد بدا فيها منحنيا للقيادة السعودية ويذكر آخر بالعلاقة الحميمة التي ربطت الاخوان في المنفى بالنظام السعودي وهذا لا ينطبق فقط على اخوان مصر بل تعداه الى اخوان العراق وسورية وغيرهم ممن وجدوا انفسهم كراهية في حضن نظام اجبروا على التعامل معه والاستفادة من خبراته وكما اكتشف حسن البنا اكتشف هؤلاء ان ليس للنظام السعودي مشروع اسلامي يتجاوز الحفاظ على امن النظام وان روج النظام للاسلام من خلال مؤسسات عالمية فهذا قد اتى من باب تثبيت الهيمنة السعودية على مسلمي العالم وليس نصرة لدين حيث اثبت النظام المستأسد ان الاسلام سلاح ذو حدين فان قطعوا الرقاب به سيجدونه قابلا لان يصبح سلاحا ضد النظام نفسه وهذا بالفعل ما حدث منذ بداية القرن العشرين وحتى هذه اللحظة. وان كان مصطلح الخوارج هو الاكثر استعمالا ضد من تحدى النظام السعودي من منظومة اسلامية الا انه سيفشل عندما يطلق ضد من خرج على الظلم بطرق سلمية وتحدى اكبر دولة مؤثرة في الساحة العربية والاسلامية مستعينا بنفس النصوص التي تستغلها السعودية ومؤسستها الدينية والقضائية في اقصاء الحراك السياسي وتجريمه. من هنا العداء السافر الذي تشنه السعودية على مصر الجديدة رغم الوعود البراقة بدعمها اقتصاديا فحتى هذه اللحظة لم تظهر السعودية اي حسن نية تجاه مصر ما عدا تهنئة رئيسها الجديد ومزيد من الوعود بمساعدات اقتصادية. المشكلة العالقة بين البلدين تتلخص بكون السعودية تجد اسدها مكبلا فكريا مشتتا عقليا امام زخم الثورات العربية واطاحتها بخطابات الطاعة والولاء لحكومات غير شرعية تستمد امنها من خارج الحدود. وان كان النفط قد نجح في توفير حياة مادية مرفهة ومسترخية الا انه بالفعل قد فشل في انتاج فكر محلي ينتشل المجتمعات من غبار الخطاب السياسي المتأسلم حسب اهواء السلاطين واراداتهم.
فبقي هذا الخطاب يترنح حتى انكشفت عيوبه وسلبياته مع رياح التغيير العربية والتي لم تأت من طفرة نفطية بل من الهامش الاقتصادي اولا في تونس وثانيا في مصر.
ورغم مخططات الثورة المضادة ستمضي مصر في تجربتها الجديدة وسيحكم على هذه التجربة من خلال انجازاتها وستظل السعودية اسدا بلا مخالب حتى تنطلق منها منظومة جديدة تهز الكيان العربي والاسلامي بابعادها الحضارية وحتى تلك اللحظة القادمة ما علينا الا ان نراقب التجربة المصرية وندعو لها بالنجاح رغم مؤامرات الغيورين.
' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق