جزء من خريطة العربي السياسية قد بدأ يتغير والجزء الآخر يبدو وانه في طريقه الى نقلة تختلف عن العقود الماضية. فتحت مصر وتونس الباب على مصراعيه لتسلم الاخوان المسلمين السلطة على أعلى مستوى فبعد الهجرة والنفي والسجون والاضطهاد خرج الاخوان المسلمون من تجربة طويلة قاسية بخبرة نمت وترعرعت في صفوف المعارضة وستختبر تجربتهم في السنوات القادمة كأحزاب حاكمة تدخل معترك السياسة وكل ما فيها من مناورات واحلاف وتنازلات وخطط اقتصادية وعلاقات خارجية مع اطراف ربما لا يرغبون بالقرب منها ولكن واقع السياسة المتحرك سيفرض نفسه على قراراتهم.
ويبدو ان الوضع الاقتصادي يجب ان يكون من اولويات من تسلم الحكم وبدون تحسين الفرص الاقتصادية وايجاد العمل لشرائح كبيرة من الشباب سيتكاثف الضغط على هذه القيادات وقد تلجأ الى تهدئة الوضع عن طريق العودة الى سياسة الهويات وخطاب الشعارات لتمتص غضب الشارع ان هي فشلت في ايجاد حلول ملحة تتجاوب مع طموحات الشبيبة التي خرجت الى الشوارع والميادين طالبة الحرية والعدالة والعيش الكريم. ورغم ان القيادات الجديدة ستكون مشغولة باعادة صياغة مؤسسات الحكم وتلبية حاجة مواطنيها الا ان وصول مثل هذه الاحزاب الى الحكم سيكون بمثابة امتحان حقيقي ليس للدول المعنية بل لدول الجوار وعلى رأسها السعودية التي تفاجأت بالربيع العربي وحاولت جاهدة احتواء تداعياته فتأرجح موقفها بين التصدي له والتشكيك به (تونس ومصر) والفتور رغم الموافقة المبدئية (ليبيا) والحيلة (اليمن) وخنقه (البحرين) ومؤخرا امتطاء صهوته (سورية). كما اخاف الربيع العربي السعودية في بدايته الا أنها تتوجس من نتائجه السياسية خاصة ان وجدت نفسها وقد طوقتها أنظمة تعلن شعارات اسلامية في اطار ديمقراطي تتداول فيه على السلطة احزاب شرعية تتنافس وتعرض برامجها بعيدا عن السرية وتصل الى السلطة عن طريق صندوق الانتخاب وتؤلف حكومات ائتلافية ربما مع احزاب اخرى لا تشاطرها برامجها السياسية. تطبيع مثل هذا الواقع السياسي الجديد هو اكبر تحد ستواجهه السلطة السعودية والتي حتى هذه اللحظة لم تقدم لشعبها اي اجندة اصلاحية سياسية وتكتفي بالصمت على موضوع التغيير السياسي بل هي تواجه براعم الربيع العربي المتأخرة تهب عليها خلال صيف حار جدا.
وتبقى السعودية بعد عام 2013 الدولة الوحيدة عالميا التي لا توجد فيها انتخابات برلمانية مهما كانت في برلمانات منقوصة الصلاحية او شكلية لا تنبثق عنها حكومات وطنية تمثل الاكثرية فرغم رفع شعارات الاصلاح خلال حكم الملك عبدالله أثبتت هذه الشعارات انها وهمية وشكلية حيث اتجهت القيادة نحو ما سمي بالانفتاح الاقتصادي وبعض التعديلات الاجتماعية التي لا تقوض دعائم الحكم التسلطي المستفرد بكل السلطة الحقيقية وتحجيم المؤسسة الدينية وسطوتها على المجتمع من خلال تقنين صلاحياتها واعادة تحجيمها لتتوافق مع متطلبات الاستفراد بالسلطة وحتى هذه اللحظة لا توجد في السعودية مؤسسات مجتمع مدني مستقلة عن السلطة تعمل بشفافية ولها حرية الحراك السياسي.
ومن اجل ابعاد عدوى الربيع العربي لجأ النظام السعودي الى ثلاث استراتيجيات اصبحت واضحة اولا الحل الامني في مواجهة الحراك الشعبي الواقعي والافتراضي مما ادى الى قمع مفضوح واعتقالات سياسية طالت النساء والرجال تعتبر من باب الردع المبرمج وارهاب المجتمع حتى اصبح دخول مدون او ناشط او خطيب مسجد السجن امرا روتينيا وقد يدخل احدهم ويخرج آخر في لعبة معروفة تلهي المجتمع المتعطش الى حل ازمة المعتقلين السياسيين وتحولت قضية هؤلاء الملحة الى حديث يومي وتغريدات روتينية متزامنة مع عدم قدرة المجتمع على حشد الاكثرية خلف حقوق المساجين حيث اقتنع البعض بأنهم ارهابيون يثيرون الفتنة والبلبلة في المجتمع ويهددون الامن والامان. اما الاستراتيجية الثانية فهي تقسيم المجتمع على اسس طائفية وحشد الاكثرية خلف عدو وهمي يعتبر مرتبطا بأجندات خارجية فمن مصلحة النظام اليوم ان يشتد التخندق الطائفي والاصطفاف خلف وهم وحدة الطائفة مما يشق الصف ويؤخر انبثاق سياسة وطنية تتجاوز حدود مجتمع الطوائف المتناحرة. واخيرا استغل النظام فوائض النفط ليشتري الولاء في لحظة حرجة وأقر حزمة من الهبات والخدمات وتعويضات عن البطالة ليضمن هدنة ربما مؤقتة تحت وطأة بريق الخدمات الموعودة والمكرمات المستلمة من خزينة الدولة. وحتى هذه اللحظة يظل النظام معتمدا على قوته الشرائية كبديل للشرعية السياسية والاصلاح السياسي الحقيقي. ولكن ان نظر النظام السعودي حوله فسيجد خارطة سياسية جديدة اهم ملامحها سقوط احتكاره للشرعية الاسلامية خاصة بعد ان تبوأت الاحزاب الاسلامية سدة الحكم في مناطق متعددة في العالم العربي وسقط خطاب الخصوصية السعودية الاسلامية بعد ان طوقتها دول هي ايضا في طريقها نحو صياغة منظومة سياسية اسلامية ديمقراطية لا تعتمد على الحكم الوراثي تماما كما هو الحال في السعودية. وهذا ما سيحجم الدور السعودي الطامح لقيادة العالم العربي والاسلامي حيث لا يوجد في هذا العالم من يطمح لاستنساخ التجربة السياسية السعودية لمحدوديتها كنظام اسلامي شرعي وان كانت انظار العالم العربي تتجه الى السعودية بسبب قوتها الشرائية واستثماراتها ونفطها حيث يواجه هذا العالم ازدواجية الرغبة في جلب هذه الثروة الى بعض المناطق مع نفور واضح وصريح من النظام وآليته وممارساته السياسية.
فالسعودية لا تقدم لهذا العالم الاسلامي تجربة سياسية تستحق ان تكون مصدر الهام او قدوة بل هي تحولت الى مصدر امتعاض واشمئزاز من قبل بعض المراقبين في العالم العربي خاصة بعد تدخلها المفضوح في انتخابات دول الجوار العربي من بغداد الى القاهرة مرورا ببيروت وصنعاء.
وان كانت انظار العالم العربي والاسلامي تتجه الى السعودية دوما فالسبب يرجع الى الجغرافيا حيث الاماكن المقدسة والاقتصاد النفطي الذي لن يقاومه الا الدول القادرة على ذلك. اما سياسيا نجد ان السعودية تتحول يوما بعد يوم الى نشاز سياسي في المنطقة بسبب تأخرها عن ملاحقة عجلة التغيير السياسي وان لم تتسارع هذه العجلة فستفقد السعودية رصيدها المعنوي ويزداد اعتمادها على النفط لفرض سيطرتها على المنطقة وهي سيطرة مشبوهة آنية مرتبطة بالقوة الشرائية المعتمدة على تسويق سلعة واحدة يقرر سعرها السوق وتخضع لمعايير العرض والطلب العالمية. وستجد نفسها محاصرة بطوق ديمقراطيات اسلامية من اهمها تركيا ومصر بينما تتمزق بنيتها التحتية بالخطابات الطائفية الاقصائية المشحونة ومثل هذه البيئة لن يكون من السهل عليها ان تقود العالم الاسلامي او تقدم له نموذجا حيا لبناء مستقبل مشرق حيث القيادة ستتوفر لمن عنده من المعطيات الحية والنموذج الاصلح وليس لمن يغرق في مخططات تمزق المجتمعات وتفتك بالسلم الاجتماعي عن طريق دغدغة العواطف البدائية والاصطفاف خلف الشعارات التي تداعب المشاعر ولا توحد او تجمع ناهيك عن الحلول الامنية التي تتصدى لكل مشروع اصلاحي شعبي وكأنه عملية ارهابية تستنفر لها جميع اجهزة الدولة الاستخباراتية والعسكرية وقمع العمل الجماعي السلمي المطالب بالتغيير وتحسين الواقع السياسي ليواكب العصر ويلبي متطلبات المجتمع الحديث، وكلما تأخرت السعودية عن مسيرة التغيير ستجد نفسها تتحول الى مركز بنكي تصرف فائضه على استراتيجيات فاشلة لشراء الذمم وقمع التغيير خارج السعودية مما يستنزف الثروة النفطية في مشاريع لا تكون دوما في صالح السعودية ناهيك عن مصالح الشعب السعودي الذي يعتمد اعتمادا كليا على موارد طاقة محدودة واحدة رغم التعددية الاقتصادية المتبعة منذ فترة زمنية محدودة. سيضيق الخناق على النظام السعودي اقليميا خاصة بعد حسم المعركة في سوريا والتي تبدو انها على خطى الدول الاخرى في موضوع حسم ثورتها وايا كانت نتيجة الثورة السورية فستجد السعودية نفسها غير قادرة على احتواء افرازاتها خاصة وان سوريا بلد صاحب تركيبة اجتماعية متنوعة وتيارات سياسية قديمة وتعددية دينية وإثنية متشعبة.
وفي النهائية ستجد السعودية نفسها تختنق من زخم التطور السياسي العربي رغم تخصبه بالدماء والقتل الا ان الشعوب العربية اثبتت انها مستعدة لدفع ثمن باهظ في سبيل حريتها وكرامتها رغم محاولات الدعاية السعودية ان الانسان يحيى بالخبز فقط.* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق