عبارة
(المملكة تقف على مسافة واحدة من جميع الأفرقاء) لا تستقيم بتاتاً مع مضمون وصريح
الرسائل والمواقف التي يطلقها الحكّام السعوديون هذه الأيام فيما يرتبط بقضايا
داخلية محضة في دول مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وتمتد القائمة لتشمل
عدداً من دول شمال أفريقيا والمغرب العربي.
يواجه النظام السعودي أزمة تتعلق بدوره الوصائي والرعوي الذي حاول ترسيخه منذ سقوط نظام البعث الصدامي في نيسان (إبريل) 2003، حيث قدّم نفسه باعتباره (حامي السنّة)، وراح يعلي بوتيرة متسارعة من اللهجة المذهبية والطائفية تحت عنوان (خطر الهلال الشيعي)، وفي 27 يناير 2007 تحدّث الملك عبدالله في مقابلة مع صحيفة (السياسة) الكويتية التي يديرها أحمد الجار ويتكفّل بإعداد المقابلات للملك والأمراء الكبار وهي عادة درج عليها منذ عقود، بلغة الرمز السني الذي يمثّل أكثرية المسلمين، ويدافع عنهم في مقابل ما أسماها (عملية التشيّع). حينذاك نبّه الملك وأمراء آل سعود الى أنهم ينزعون الى تقمّص دور الوصي على الإسلام السنيّ بذريعة الدفاع عن أهل السنّة والجماعة.
بعد الربيع العربي، شعر النظام السعودي بأن حلمه في الوصاية والرعاية قد تحوّل الى كابوس، خصوصاً وأن الربيع بدأ بسقوط نظامين حليفين له: التونسي والمصري، ثم انتقل الى اليمن، التي بقيت جزءً من المجال الوصائي السعودي. اصطفاف آل سعود الى جانب المستبدّين أفقدهم كثيراً من رهاناتهم، وقد ظهرت حركات شعبية في تونس ومصر تعارض الهيمنة السعودية، ففي الأولى جرت مطالبات بإعادة زين العابدين بن علي لمحاكمته في تونس، فيما عصفت قضية المحامي الحقوقي الجيزاوي بالعلاقات السعودية المصرية ما اضطرت الحكومة الى سحب سفيرها من القاهرة، قبل أن ترجعه ثانية بعد أن تبيّنت خطأ قرارها بسحب السفير. الشعارات التي كتبت على مبنى السفارة السعودية ورفعها المعتصمون أمامها كانت كفيلة بأن تكشف عن جزء من السخط المكتوم في قلوب المصريين..
في الربيع العربي، لم يعد النظام السعودي يمارس التدخل بالطريقة المباشرة كما في السابق، بل صار يلجأ الى الخداع، والمخاتلة، والطرق السريّة لأنه يواجه الآن شعوباً تمقته..حتى ليبيا التي اعتقد آل سعود بأنهم حققّوا حلمهم بإزالة خصم عنيد من أمامهم، فإن الشعب الليبي بدا كارهاً لأن يخضع لنظام رجعي ديكتاتوري، ولسان حال الليبيين: إن كان لديك نفط فلدينا نفط وبجودة أفضل، ونستطيع أن نبني نظاماً متطوّراً دون حاجة الى أموالك.
ثمة منطقة وحيدة بقيت المساحة المتبقيّة التي يراهن النظام السعودي عليها وتشمل العراق وسورية ولبنان، كونها من المنطقة التي تتميّز بتنوعها الديني والمذهبي والإثني والقومي، وإن تفجير التناقضات في هذه البلدان قد يمنح السعودية فرصة تخريب معادلات قائمة أو يجعلها في مأمن الى أجل ممدود نسبياً، وأن تتخلص من فائض السخط الداخلي، عبر تشجيع الأفراد المتأهبين للعنف وحب القتال على الهجرة والجهاد لتحقيق هدف مزدّوج.
مئات القتلى من المواطنين قضوا في ميادين المواجهة العبثية في بلدان عديدة من العالم، ولم يعرف سوى قلة نادرة ومقرّبة من الضحايا الهدف من وراء انخراطهم في مشاريع قتال غير واضحة المعالم.. خطاب الهلاك الذي يتغذى عليه المقاتلون في الداخل يبدأ من حلم الزعامة الوهمية التي تبدأ من فكرة الأمير والإماراة وتتوسّل العقيدة التنزيهية التي ترى في الذات الإيمان المطلق والآخر الكفر المطلق..
منذ اندلاع الثورة الشعبية في مدن سوريا، وجد آل سعود فرصة لإعادة تفعيل الخطاب الوصائي، تحت حجة حماية السنّة، الذي لم يقتصر على سورية بل شمل لبنان، فيما المعركة تدور بين طلاّب الحرية وسدنة الاستبداد، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالبعد المذهبي ما لم يقرر المستفيدون من تلك الحرب استغلال العامل الديني والمذهبي كأحد أسلحة المعركة.
إستخدام وصف (أهل السنة والجماعة) عاد ليصبغ رسائل وخطابات الملك عبد الله وأمير الفتنة نايف، في سياق عملية تجييش طائفي وكأحد أسلحة الحرب ضد النظام السوري، العلماني. لم يكن آل سعود طيلة العقود الماضية يكترثون لهوية من يرأس سورية علوياً كان أم شيوعياً، فقد كانت علاقاتهم بالنظام السوري حيوية رغم أن الأخير لم يبدّل سياساته أو حتى رموزه، بل ثمة حديث متواتر عن تكافؤ مصاهرة بين الملك عبد الله وبين عائلة الأسد، فمالذي جعله الآن يلوذ باللغة المذهبية ليتحدث عن أهل السنة والجماعة وكأنّه للتو قد اكتشف وجودهم في سورية، تماما كمن اكتشف وجود مكوّنات دينية أخرى في محافظات ذات أغلبية سنيّة.
لا يتحرّك آل سعود إزاء قضايا داخلية في دول عربية أو إسلامية ما لم يكن لهم أغراض بعيدة غير واردة في المعلن من المواقف.. ليس حباً في الشعب يقوم آل سعود بتقديم مساعدات مالية للحكومة اليمنية بقيمة ثلاثة مليارات، لأن ثمة حاجة للمال السياسي، وإلا فإن السودان التي تعاني من أزمة إقتصادية حادة إزدادت صعوبة بعد انفصال الجنوب وكانت بحاجة لمعونات مالية لتنفيذ مشاريع تنموية وحيوية إنقاذية، ولكن لم تحصل على أدنى مساعدة مالية من دول مجلس التعاون ، ببساطة لأن السودان دولة غير حليفة لهم، وليست وديّة مع الولايات المتحدة، وليس هنك ما تكسبه من السودان بصورة مباشرة على الأقل، بينما اليمن يشكّل خطراً كامناً على استقرارها وأمنها وتريد شراءها بالمال، حتى لو تطلّب الأمر تمويل جماعات مسلّحة وتفجير معارك داخلية بين القوى السياسية والاجتماعية عن طريق إشعال الخلافات وتوظيف التناقضات لمصالح خاصة.
رهان آل سعود حالياً يتركز على ثالوث العراق ـ سورية ـ لبنان، كون أي تغييرات جيوسياسية فيه سوف ينعكس على بنية النظام الإقليمي برمته، ولذلك لا غرابة في هذا الاستنفار غير المسبوق الذي يبديه آل سعود للدخول في المعركة بصورة علنية ودون مواربة، عبر التمويّل والتسليح والتحشيد والتطييف وكأنهم ذاهبون الى سياسة حافة الهاوية، على أمل إسقاط خصمهم اللدود في الهاوية وللأبد.
لا تبدو اللهجة الرسمية السعودية منسجمة مع الماضي ولا تمثل امتداداً لسياسة جبلوا عليها، فهم يخوضون تجربة جديدة لم يعتد الخصوم والأصدقاء عليها، فقد ألفوا المواربة والكذب البارع والطعن في الظهر، وليس الصراحة بكل الوقاحة البادية على لسان ومحيا وزير الخارجية سعود الفيصل، أو خبث ومكر الأمير نايف الذي إن تبرّم وشكى العجز كدت أن تحدث نفسك بمكاتبة المدافعين عن حقوق الإنسان لتبني قضيته في المحافل الدولية!
ال سعود ليسوا مواربين بعد الآن، هم كذبوا، بل أدمنوا الكذب، ولكن كان ذلك في زمن تطلب فيه هذا الدور أما الآن فهم منغمسون في المؤامرات بكل أساليبها القذرة، وحتى الملائكة هبطت من السماء لتصبح جزء من اللعبة الهابطة، على طريقة شيخ التشويق محمد العريفي.
في الأعراف الدبلوماسية، غالباً ما تكون المراسلات بين الزعماء وقادة الدول سريّة، باستثناء رسائل التهنئة بالأعياد والمناسبات الدينية والوطنية التي تعبّر عن مستوى العلاقة الوديّة بين دولتين. ولكن أن يكشف حاكم دولة عن رسالة تتطرّق الى موضوعات خاصة جداً في دولة الحاكم المتلقّي للرسالة، فذاك يعتبر خلافاً للأعراف الدبلوماسية بل وتنطوي على إهانة لحاكم تلك الدولة، خصوصاً إذا ما تضمنّت ما يفيد بتدخّل في شؤون بلاده الداخلية، فكيف إذا ما اشتملت على ما يشبه أوامر بفعل كذا وعدم فعل كذا.
رسالة الملك عبد الله الى رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان في 21 مايو الماضي تركت انطباعات متباينة لدى القوى السياسية اللبنانية بحسب علاقتها مع النظام السعودي، الا أن المراقبين لهم تقييم لا يخضع لحسابات سياسية بقدر خضوعه لمنهج التعامل الدبلوماسي وما يعني قيام رئيس دولة بوضع رسالة خاصة في متناول الاعلام، ثم أن تتضمن كلاماً عن حدث داخلي ويعقبه نصائح.
يقول الملك في رسالته: (تتابع المملكة العربية السعودية ببالغ القلق تطورات أحداث طرابلس وخصوصاً لجهة استهدافها لأحد الطوائف الرئيسية التي يتكون منها النسيج الاجتماعي اللبناني). ومن الواضح في هذه الفقرة التي استهل بها الملك رسالته أن ثمة تدخلاَ صريحاً وواضحاً في شأن داخلي ومن ثم اصطفاف طائفي. وهذا يتناقض مع ما قاله في فقرة أخرى بإسداء نصيحة الى (كافة الأطراف اللبنانية) بأن (تغلب مصلحة الوطن اللبناني أولاً على ماعداه من مصالح فئوية ضيقة أو خدمة مصالح أطراف خارجية لا تريد الخير للبنان، ولا المنطقة العربية عموماً). فهو يشير هنا بالقطع ودون حاجة الى كبير جهد إلى ايران، الخصم السعودي في لبنان، مع أن الكلام عن مصالح فئوية ضيقة وخدمة مصالح أطراف خارجية ينسحب على السعودية سواء بسواء، وإن الكلام عن أطراف (لا تريد الخير للبنان، ولا المنطقة العربية عموماً) يقرّره اللبنانيون وليس آل سعود، ولكنّها نزعة المصادرة المهيمنة عليهم ما يجعلهم يتصرّفون وكأنهم يملكون حتى حق التفكير والقرار بالنيابة عن الآخرين.
لن نتوقف عند دعوة الملك لاستئناف الحوار الوطني في لبنان، بعد انقطاع طويل، لأن ذلك أقصى ما عثر عليه من شعروا بالحرج من رسالة الملك، بما فيها الخوض في النزاع الذي كان حاصلاً في طرابلس، بالرغم من وجود عناصر سعودية وسلفية ضالعة فيه.
اللبنانيون الموالون لآل سعود إعتادوا التفتيش عن كل ما يجبر الكسور المضاعفة في مواقف النظام السعودي وبياناته، فراح بعضهم يهلل طرباً لدعوة الحوار الوطني، بل وطمعاً في التغطية على محتويات الرسالة الأخرى، اعتبر الدعوة للحوار هي لبّ الرسالة وجوهرها. كتب طارق ترشيشي في (الجمهورية) اللبنانية مقالاً في 23 أيار، إفتتحه بهذه العبارة (يمكن القول إنّ أبواب الحوار الوطني اللبناني قد انفتحت، ولم يعد ينقص إلّا أن يوجّه رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الدعوة..).
بين من اعتبر الرسالة تعضيداً لحكومة نجيب ميقاتي، الذي يواجه تحدّيات داخلية بسبب ملفات الحكومة في الكهرباء والموازنة والعمال والأسعار والوقود..وتحديات خارجية تفرضها أولاً الأزمة السورية، وبين من اعتبرها جرس انذار وتجهيز أرضية القتال المنتظرة مع تدهور الأوضاع الأمنية في سورية.
آخرون نظروا الى استعمال لغة مذهبية غير مباشرة في رسالة الملك عبد الله على أنه مؤشر على نيّة التدخل المباشر في الساحة اللبنانية في حال تزايدت المواجهات المسلّحة في الشمال اللبناني وتدهور الاستقرار على الحدود اللبنانية السورية. يلفت تصريح سعود الفيصل عقب خطاب بشار الاسد في افتتاح مجلس الشعب السوري، الى هذه النيّة المبيّتة حين ربط ما يجري في شمال لبنان بأنه امتداد لما يجري في سورية، في عملية استعداء مفضوحة.
ثمة من نظر الى تركيز الملك عبد الله على الخطر المتخيّل التي يحدق بالسنة في لبنان سببه حسب كاتب لبناني (شعور لدى المملكة بأن البعض يحاول سحب بساط رعايتها للسنة في لبنان ويحاول تجييره لمصلحته) في إشارة الى قوى فاعلة مرتبطة بدول خليجية، وقد تكون قطر على رأس تلك الدول، كونها تقوم بالدور ذاته في اليمن ودول أخرى. وفي التوقيت، نظر الى الرسالة بأنها أحد ردود الفعل السعودية على محادثات ايران والغرب في بغداد والاحاديث المنتشرة عن قرب اتصال لاتفاق شامل على ملفات المنطقة.
في حقيقة الأمر، أن النظام السعودي وهو يواجه مخاطر المتغيرات الاقليمية على استقراره الداخلي بحاجة الى كل عناصر شدّ العصب الطائفي التي تكفل بقاءه وتحافظ على وحدته أمام ارتيابات جمّة غير منظورة تكتنف التحوّلات التاريخية الكبرى التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، ولذلك فلا مناص أمامه سوى الايغال في الخطاب الطائفي لتكتيل الحلفاء من قوى وجماعات وشخصيات في معركة قد ينظر اليها بأنه حاسمة وشاملة.
*محمد قستي - الحجاز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق