يثبت تقليب النظر في المؤشرات أن موقع أميركا المتميز في النظام الدولي ما
زال قائماً، بالرغم من تراجعه النسبي في العقدين الأخيرين.
تأسيساً
على ذلك، تأتي هذه السلسلة من التحليلات حول سياسات الرئيس الاميركي الجديد القديم
باراك أوباما المرتقبة حيال الأقطاب الإقليمية في الشرق الأوسط: إيران، مصر،
تركيا، السعودية وإسرائيل لتحاول استشراف السياسة الأميركية في السنوات الأربع
المقبلة حيال كل قطب منها. هنا مقاربة لسياسة اوباما السعودية.
العلاقات السعودية ـ الأميركية: لمحة تاريخية
فردت بريطانيا مظلة حمايتها على السعودية في مواجهة الأتراك منذ بدايات القرن العشرين، واستمر ذلك الأمر قائماً حتى تغيرت موازين القوى الدولية شيئاً فشيئاً بصعود الولايات المتحدة الأميركية كزعيمة للعالم الغربي. وعلى الرغم من اعتراف أميركا بحكم آل سعود جاء في العام 1931 الذي ترافق مع أول عمليات التنقيب الأميركية في المملكة (حصلت شركة «ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا» على حق التنقيب في المنطقة الشرقية)، إلا أن العلاقات تطورت إلى مصاف التحالف الاستراتيجي في نهايات الحرب العالمية الثانية مع إعلان الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت بسط الحماية الأميركية على السعودية بقوله: «الدفاع عن السعودية هو مصلحة حيوية للدفاع عن الولايات المتحدة الأميركية».
ومنذ اللقاء الشهير الذي جمع الزعيمين على ظهر الفرقاطة توينسي في شباط من العام 1945، يشكل التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، والاعتماد عليها في حماية أمنها القومي عمود خيمة المصالح الدولية للرياض، بمعنى آخر، أرسي أساس العلاقة بين الطرفين وفقاً لمعادلة «النفط مقابل الأمن». ومع احتدام الحرب الباردة أخذت السعودية موقعها بوضوح ضمن الاصطفاف الغربي، واعتمدت واشنطن باطّراد على الموارد النفطية السعودية كأحد روافد زعامتها العالمية.
وعند إعلان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فك ارتباط الدولار الأميركي بالذهب وفقا لاتفاقية «بريتون وودز»، لم يسقط الدولار الأميركي في الأسواق العالمية ولم تتراجع المكانة الأميركية، والسبب واضح أن سوق النفط العالمية تقيّم بالدولار وأن فوائض النفط تصب في النهاية بالمصارف الأميركية، ما حفظ للدولار مكانته في العالم.
عززت السعودية مكانتها الإقليمية والدولية في أعقاب حرب تشرين الأول 1973، إذ سمح ارتفاع أسعار النفط في الفترة القليلة التي تلت هذه الحرب بفوائض مالية لم تعرفها السعودية في تاريخها، ما سمح لها أكثر بترسيخ تحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية.
وبالرغم من الحرب الطاحنة التي دامت ثماني سنوات بين البلدين النفطيين الجارين العراق وإيران، وتعذر التصدير منهما إلى العالم، فقد ظل سعر النفط متدنيا بشدة (دار وقتها حول عشرة دولارات للبرميل الواحد) بفضل قدرة السعودية على الإنتاج وزيادة المعروض النفطي في العالم. باختصار، ترسم السعودية سياساتها النفطية في سوق الطاقة العالمية (تصدر 10 ملايين برميل نفط يومياً) بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة الأميركية، كما تستثمر السعودية فوائضها النفطية بالأخص في أميركا بحجم استثمارات يتعدى ستة تريليونات دولار، مع ملاحظة أن التريليون هو ألف مليار.
وعلاوة على ذلك تستورد السعودية عتادها العسكري في غالبيته الواضحة من الشركات الأميركية، فتكون قد ضمنت بذلك تأثراً غير منكور على مكونات النواة الصلبة لصنع القرار الأميركي: (اللوبي المالي) حيث الإيداعات السعودية الضخمة في المصارف والبنوك الأميركية، والتنسيق في سوق النفط من حيث الكميات والأسعار (لوبي النفط)، وليس انتهاء بالمجمع الصناعي - العسكري الأميركي عبر مشتريات السلاح.
وعرفت العلاقات الثنائية فترة ازدهار نوعية مع رئاسة جورج بوش الأب للولايات المتحدة، وارتباطاته التاريخية مع لوبي النفط، والأدوار الاستثنائية التي قام بها الأمير بندر بن سلطان في تعزيز العلاقة بين آل سعود وآل بوش. ثم تغير الحال مع هجمات الحادي عشر من أيلول، حيث اهتزت صورة المملكة في أميركا، ما دفع السعودية إلى القيام بحملات مكثفة للعلاقات العامة كلفت الكثير من المال لعقد مؤتمرات «حوار الأديان»، وتدشين حملات الديبلوماسية العامة لتعميم صورتها باعتبارها الشريك الذي يعتمد عليه في الشرق الأوسط وسوق الطاقة العالمية.
وكان من نتائج هذا الأمر أن صرف الرئيس السابق بوش الابن فائض الغضب والقوة صوب العراق، الذي تم احتلاله في ربيع العام 2003. وعلى الرغم من أن احتلال العراق ضرب مداميك النظام الإقليمي العربي، إلا أن ورطة بوش الابن فيه منعته من تعميم مشروع «الشرق الأوسط الكبير» على المنطقة، بما يحمله في طياته من مخاطر على حلفاء أميركا الإقليميين وفي مقدمهم السعودية.
وإذ سيطرت قضايا إيران والصراع العربي - الإسرائيلي على اهتمامات أوباما الشرق أوسطية في ولايته الأولى وعدم قدرة المملكة على رص اصطفاف إقليمي قوي في مواجهة إيران، فإن استمرار التحالف الأميركي -السعودي بالوتيرة ذاتها يعد أمراً قيد الدرس في واشنطن الآن.
السعودية في السياق الإقليمي الجديد
تحيط مصادر التهديد بالسعودية من كل اتجاهات جوارها الجغرافي، سواء من أقصى الشمال حيث الوضع في سوريا المتحالفة مع إيران، أو من الشمال الشرقي حيث العراق بتركيبته السياسية الجديدة بعد العام 2003، أو من الشرق في الخليج حيث البحرين. ومن الجنوب الغربي حيث عدم الاستقرار في اليمن والمعارك الطاحنة التي دارت مع الحوثيين فيه خلال الأعوام القليلة الماضية، كل مصادر التهديد هذه تحمل - من المنظور السعودي - طابعاً إيرانياً إلى الحد الذي أصبحت فيه الأخيرة التهديد الرقم واحداً للسعودية.
تقليدياً تكمن المصالح الإقليمية للسعودية في معاداة التغيير وتفضيل إبقاء التوازنات الإقليمية على حالها، أو بعبارة أخرى تدافع السعودية بضراوة عن استمرار الوضع القائم status quo، ما يمثل نقطة ضعفها الأساسية. ويعود السبب في ذلك إلى اضطرارها للتموضع في موقع الدفاع أمام أية قوة في المنطقة، تطرح مشروعاً إقليمياً يتجاوز حدودها، بغض النظر عن محتواه.
لكل ذلك تعمل السعودية بدأب على تعزيز ورعاية الاتجاهات المحافظة السياسية والدينية في المنطقة، فتفلح من ناحية في كبح الاتجاهات الليبرالية، إلا أنها من ناحية أخرى تدفع ثمنا سياسيا كبيرا لظهور اتجاهات راديكالية ومغرقة في المحافظة بالعقدين الأخيرين (حالة تنظيم «القاعدة» مثالاً).
كما أن المفاوضات الأميركية - الإيرانية وظهور التحالف التركي مع دول «الربيع العربي» تحت المظلة الأميركية يؤرقان المملكة، لأنهما يفتحان الباب على بدائل إقليمية أخرى لواشنطن في المنطقة.
أزمة الخلافة في السعودية
من وجه آخر، تعد مسألة الخلافة في السعودية أمراً فائق الأهمية لواشنطن وليست مسألة داخلية سعودية محضة، إذ أن حل الأزمة مؤسسياً سيؤشر لقدرة السعودية على الاستمرار بأدوارها كشريك مستقر في المنطقة. منذ فترة تسير الأمور في اتجاه أزمة معلنة تتعلق بانتقال السلطة في السعودية، فمع الوفيات المتتالية لأمراء العائلة المالكة السعودية، وتقدم عمر العاهل السعودي الملك عبدالله (90 عاماً) ووجود ولي عهد واحد هو الأمير سلمان (77 عاماً)، فقد كان على العائلة السعودية أن تثبت للعالم قدرتها على تجديد نفسها.
لذلك جاء تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز (70 عاماً) نائباً ثانياً لرئيس الوزراء في شهر شباط 2013، مؤشراً على حل مؤقت للأزمة، ومرد ذلك أن خبرة الماضي تفيد بأن هذا الموقع يؤهل لشغل ولاية العهد لاحقاً. بهذا التنصيب خرج أولاد الملك فيصل من سباق التكهنات لولاية العهد باعتبارهم مرشحي الحل الوسط بين الأجنحة المختلفة والمتنافسة، أما مجموعة «السديري» وهم أبناء الملك عبد العزيز الأشقاء وأولادهم، فقد تزعزعت مواقعهم بالفعل بعد وفاة الملك فهد عام 2005 ووزير الدفاع الأمير سلطان 2011 ووزير الداخلية الأمير نايف 2012.
وإن كان تنصيب الأمير مقرن نائبا ثانيا للوزراء ملطفاً نوعا ما للصراع على العرش الملكي السعودي بين أجنحة العائلة المتنافسة، فإن جوهر الأزمة يبقى على حاله مع ذلك ومتلخصا في سؤال: من يخلف الأمير مقرن؟ تزداد صعوبة الأمر مع ملاحظة أن الملك عبد العزيز له أربعون ولداً، لهم بدورهم أنجال يلعبوا أدوارا سياسية كبرى راهناً، وكلهم يصلحون لخلافة الأمير مقرن (وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف ونائب وزير الدفاع الأمير خالد بن سلطان والأمير متعب بن عبدالله قائد الحرس الوطني).
هنا مؤشر هام على قدرة السعودية في إقناع أوباما في الاستمرار بالشراكة ذاتها، مع علم الرياض أن أوباما ربما يكون الرئيس الأقل ميلاً إلى الرياض في تاريخ العلاقات بين الطرفين.
لا بديل أمام السعودية من الاستمرار في التحالف مع واشنطن لحماية أمنها ومصالحها، في حين يملك أوباما بالمقابل مروحة أوسع من البدائل. وإذ يروم أوباما تشكيل اصطفاف جديد في المنطقة مكون من دول «الربيع العربي» وتركيا، فإنه يتفاوض مع إيران حول ملفها النووي التي تقود بدورها اصطفافا إقليميا آخر، وهما اصطفافان يتوازيان مع الاصطفاف الخليجي ولا يصبان في المصب ذاته.
تحالفان لا يفقدان السعودية مواقعها نهائيا في خريطة التوازنات الشرق أوسطية، ولكنهما يحرران واشنطن أكثر فأكثر من ارتهانها للنفط السعودي، بعد أن يحفرا بعمق في البيئة الجيو-سياسية للمنطقة وبشكل أكثر مناسبة للمصالح الأميركية. سيدشن وصول رئيس جمهوري جديد إلى البيت الأبيض عام 2016 بابا جديدا للسعودية كي تخرج من معضلة أوباما (أمر غير مضمون)، بشرط أن تفلح العائلة الحاكمة في تجديد سلطتها (أمر صعب)، وفي حماية نفسها من أخطار إقليمية تأتيها من كل الجهات الجغرافية (أمر غير مؤكد) وأن تستمر بأدوارها الفائقة الأهمية في سوق النفط الدولية (أمر مرجح).
يراهن أهل الصحراء بدهاء على سأم خصومهم من الحر القائظ ونمطية الطبيعة القاسية للانسحاب من المواجهة وليس على قوتهم الذاتية بالضرورة. وفق المنوال ذاته، تأمل السعودية أن تنقضي ولاية أوباما الثانية دون تحقيق رغباته، سواء بفشل المفاوضات الإيرانية - الأميركية أو بغرق دول «الربيع العربي» في أزماتها الداخلية، فلا يعود بعدها للتنويع الإقليمي المفترض محل من الإعراب!
مصطفى اللباد ـ السفير اللبنانية
العلاقات السعودية ـ الأميركية: لمحة تاريخية
فردت بريطانيا مظلة حمايتها على السعودية في مواجهة الأتراك منذ بدايات القرن العشرين، واستمر ذلك الأمر قائماً حتى تغيرت موازين القوى الدولية شيئاً فشيئاً بصعود الولايات المتحدة الأميركية كزعيمة للعالم الغربي. وعلى الرغم من اعتراف أميركا بحكم آل سعود جاء في العام 1931 الذي ترافق مع أول عمليات التنقيب الأميركية في المملكة (حصلت شركة «ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا» على حق التنقيب في المنطقة الشرقية)، إلا أن العلاقات تطورت إلى مصاف التحالف الاستراتيجي في نهايات الحرب العالمية الثانية مع إعلان الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت بسط الحماية الأميركية على السعودية بقوله: «الدفاع عن السعودية هو مصلحة حيوية للدفاع عن الولايات المتحدة الأميركية».
ومنذ اللقاء الشهير الذي جمع الزعيمين على ظهر الفرقاطة توينسي في شباط من العام 1945، يشكل التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، والاعتماد عليها في حماية أمنها القومي عمود خيمة المصالح الدولية للرياض، بمعنى آخر، أرسي أساس العلاقة بين الطرفين وفقاً لمعادلة «النفط مقابل الأمن». ومع احتدام الحرب الباردة أخذت السعودية موقعها بوضوح ضمن الاصطفاف الغربي، واعتمدت واشنطن باطّراد على الموارد النفطية السعودية كأحد روافد زعامتها العالمية.
وعند إعلان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فك ارتباط الدولار الأميركي بالذهب وفقا لاتفاقية «بريتون وودز»، لم يسقط الدولار الأميركي في الأسواق العالمية ولم تتراجع المكانة الأميركية، والسبب واضح أن سوق النفط العالمية تقيّم بالدولار وأن فوائض النفط تصب في النهاية بالمصارف الأميركية، ما حفظ للدولار مكانته في العالم.
عززت السعودية مكانتها الإقليمية والدولية في أعقاب حرب تشرين الأول 1973، إذ سمح ارتفاع أسعار النفط في الفترة القليلة التي تلت هذه الحرب بفوائض مالية لم تعرفها السعودية في تاريخها، ما سمح لها أكثر بترسيخ تحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية.
وبالرغم من الحرب الطاحنة التي دامت ثماني سنوات بين البلدين النفطيين الجارين العراق وإيران، وتعذر التصدير منهما إلى العالم، فقد ظل سعر النفط متدنيا بشدة (دار وقتها حول عشرة دولارات للبرميل الواحد) بفضل قدرة السعودية على الإنتاج وزيادة المعروض النفطي في العالم. باختصار، ترسم السعودية سياساتها النفطية في سوق الطاقة العالمية (تصدر 10 ملايين برميل نفط يومياً) بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة الأميركية، كما تستثمر السعودية فوائضها النفطية بالأخص في أميركا بحجم استثمارات يتعدى ستة تريليونات دولار، مع ملاحظة أن التريليون هو ألف مليار.
وعلاوة على ذلك تستورد السعودية عتادها العسكري في غالبيته الواضحة من الشركات الأميركية، فتكون قد ضمنت بذلك تأثراً غير منكور على مكونات النواة الصلبة لصنع القرار الأميركي: (اللوبي المالي) حيث الإيداعات السعودية الضخمة في المصارف والبنوك الأميركية، والتنسيق في سوق النفط من حيث الكميات والأسعار (لوبي النفط)، وليس انتهاء بالمجمع الصناعي - العسكري الأميركي عبر مشتريات السلاح.
وعرفت العلاقات الثنائية فترة ازدهار نوعية مع رئاسة جورج بوش الأب للولايات المتحدة، وارتباطاته التاريخية مع لوبي النفط، والأدوار الاستثنائية التي قام بها الأمير بندر بن سلطان في تعزيز العلاقة بين آل سعود وآل بوش. ثم تغير الحال مع هجمات الحادي عشر من أيلول، حيث اهتزت صورة المملكة في أميركا، ما دفع السعودية إلى القيام بحملات مكثفة للعلاقات العامة كلفت الكثير من المال لعقد مؤتمرات «حوار الأديان»، وتدشين حملات الديبلوماسية العامة لتعميم صورتها باعتبارها الشريك الذي يعتمد عليه في الشرق الأوسط وسوق الطاقة العالمية.
وكان من نتائج هذا الأمر أن صرف الرئيس السابق بوش الابن فائض الغضب والقوة صوب العراق، الذي تم احتلاله في ربيع العام 2003. وعلى الرغم من أن احتلال العراق ضرب مداميك النظام الإقليمي العربي، إلا أن ورطة بوش الابن فيه منعته من تعميم مشروع «الشرق الأوسط الكبير» على المنطقة، بما يحمله في طياته من مخاطر على حلفاء أميركا الإقليميين وفي مقدمهم السعودية.
وإذ سيطرت قضايا إيران والصراع العربي - الإسرائيلي على اهتمامات أوباما الشرق أوسطية في ولايته الأولى وعدم قدرة المملكة على رص اصطفاف إقليمي قوي في مواجهة إيران، فإن استمرار التحالف الأميركي -السعودي بالوتيرة ذاتها يعد أمراً قيد الدرس في واشنطن الآن.
السعودية في السياق الإقليمي الجديد
تحيط مصادر التهديد بالسعودية من كل اتجاهات جوارها الجغرافي، سواء من أقصى الشمال حيث الوضع في سوريا المتحالفة مع إيران، أو من الشمال الشرقي حيث العراق بتركيبته السياسية الجديدة بعد العام 2003، أو من الشرق في الخليج حيث البحرين. ومن الجنوب الغربي حيث عدم الاستقرار في اليمن والمعارك الطاحنة التي دارت مع الحوثيين فيه خلال الأعوام القليلة الماضية، كل مصادر التهديد هذه تحمل - من المنظور السعودي - طابعاً إيرانياً إلى الحد الذي أصبحت فيه الأخيرة التهديد الرقم واحداً للسعودية.
تقليدياً تكمن المصالح الإقليمية للسعودية في معاداة التغيير وتفضيل إبقاء التوازنات الإقليمية على حالها، أو بعبارة أخرى تدافع السعودية بضراوة عن استمرار الوضع القائم status quo، ما يمثل نقطة ضعفها الأساسية. ويعود السبب في ذلك إلى اضطرارها للتموضع في موقع الدفاع أمام أية قوة في المنطقة، تطرح مشروعاً إقليمياً يتجاوز حدودها، بغض النظر عن محتواه.
لكل ذلك تعمل السعودية بدأب على تعزيز ورعاية الاتجاهات المحافظة السياسية والدينية في المنطقة، فتفلح من ناحية في كبح الاتجاهات الليبرالية، إلا أنها من ناحية أخرى تدفع ثمنا سياسيا كبيرا لظهور اتجاهات راديكالية ومغرقة في المحافظة بالعقدين الأخيرين (حالة تنظيم «القاعدة» مثالاً).
كما أن المفاوضات الأميركية - الإيرانية وظهور التحالف التركي مع دول «الربيع العربي» تحت المظلة الأميركية يؤرقان المملكة، لأنهما يفتحان الباب على بدائل إقليمية أخرى لواشنطن في المنطقة.
أزمة الخلافة في السعودية
من وجه آخر، تعد مسألة الخلافة في السعودية أمراً فائق الأهمية لواشنطن وليست مسألة داخلية سعودية محضة، إذ أن حل الأزمة مؤسسياً سيؤشر لقدرة السعودية على الاستمرار بأدوارها كشريك مستقر في المنطقة. منذ فترة تسير الأمور في اتجاه أزمة معلنة تتعلق بانتقال السلطة في السعودية، فمع الوفيات المتتالية لأمراء العائلة المالكة السعودية، وتقدم عمر العاهل السعودي الملك عبدالله (90 عاماً) ووجود ولي عهد واحد هو الأمير سلمان (77 عاماً)، فقد كان على العائلة السعودية أن تثبت للعالم قدرتها على تجديد نفسها.
لذلك جاء تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز (70 عاماً) نائباً ثانياً لرئيس الوزراء في شهر شباط 2013، مؤشراً على حل مؤقت للأزمة، ومرد ذلك أن خبرة الماضي تفيد بأن هذا الموقع يؤهل لشغل ولاية العهد لاحقاً. بهذا التنصيب خرج أولاد الملك فيصل من سباق التكهنات لولاية العهد باعتبارهم مرشحي الحل الوسط بين الأجنحة المختلفة والمتنافسة، أما مجموعة «السديري» وهم أبناء الملك عبد العزيز الأشقاء وأولادهم، فقد تزعزعت مواقعهم بالفعل بعد وفاة الملك فهد عام 2005 ووزير الدفاع الأمير سلطان 2011 ووزير الداخلية الأمير نايف 2012.
وإن كان تنصيب الأمير مقرن نائبا ثانيا للوزراء ملطفاً نوعا ما للصراع على العرش الملكي السعودي بين أجنحة العائلة المتنافسة، فإن جوهر الأزمة يبقى على حاله مع ذلك ومتلخصا في سؤال: من يخلف الأمير مقرن؟ تزداد صعوبة الأمر مع ملاحظة أن الملك عبد العزيز له أربعون ولداً، لهم بدورهم أنجال يلعبوا أدوارا سياسية كبرى راهناً، وكلهم يصلحون لخلافة الأمير مقرن (وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف ونائب وزير الدفاع الأمير خالد بن سلطان والأمير متعب بن عبدالله قائد الحرس الوطني).
هنا مؤشر هام على قدرة السعودية في إقناع أوباما في الاستمرار بالشراكة ذاتها، مع علم الرياض أن أوباما ربما يكون الرئيس الأقل ميلاً إلى الرياض في تاريخ العلاقات بين الطرفين.
لا بديل أمام السعودية من الاستمرار في التحالف مع واشنطن لحماية أمنها ومصالحها، في حين يملك أوباما بالمقابل مروحة أوسع من البدائل. وإذ يروم أوباما تشكيل اصطفاف جديد في المنطقة مكون من دول «الربيع العربي» وتركيا، فإنه يتفاوض مع إيران حول ملفها النووي التي تقود بدورها اصطفافا إقليميا آخر، وهما اصطفافان يتوازيان مع الاصطفاف الخليجي ولا يصبان في المصب ذاته.
تحالفان لا يفقدان السعودية مواقعها نهائيا في خريطة التوازنات الشرق أوسطية، ولكنهما يحرران واشنطن أكثر فأكثر من ارتهانها للنفط السعودي، بعد أن يحفرا بعمق في البيئة الجيو-سياسية للمنطقة وبشكل أكثر مناسبة للمصالح الأميركية. سيدشن وصول رئيس جمهوري جديد إلى البيت الأبيض عام 2016 بابا جديدا للسعودية كي تخرج من معضلة أوباما (أمر غير مضمون)، بشرط أن تفلح العائلة الحاكمة في تجديد سلطتها (أمر صعب)، وفي حماية نفسها من أخطار إقليمية تأتيها من كل الجهات الجغرافية (أمر غير مؤكد) وأن تستمر بأدوارها الفائقة الأهمية في سوق النفط الدولية (أمر مرجح).
يراهن أهل الصحراء بدهاء على سأم خصومهم من الحر القائظ ونمطية الطبيعة القاسية للانسحاب من المواجهة وليس على قوتهم الذاتية بالضرورة. وفق المنوال ذاته، تأمل السعودية أن تنقضي ولاية أوباما الثانية دون تحقيق رغباته، سواء بفشل المفاوضات الإيرانية - الأميركية أو بغرق دول «الربيع العربي» في أزماتها الداخلية، فلا يعود بعدها للتنويع الإقليمي المفترض محل من الإعراب!
مصطفى اللباد ـ السفير اللبنانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق