29 أكتوبر 2012

رحلة العرب الكبرى: من الجهاد العسكري الى السلمي د. مضاوي الرشيد

صورةفصل جديد في تاريخ العرب الحديث بدأ مع الثورات السلمية في مصر وتونس وبعدها في اليمن والبحرين ووصل عمان وانتقل الى السعودية ولو على استحياء ومؤخرا تجلى بقوة واضحة وصريحة في شوارع الكويت حيث تجمهر آلاف من المواطنين يطالبون بانهاء الحكم الفردي معترضين على تعديلات آنية قدمتها القيادة لتحتوي تداعيات انتخابات سابقة اتت بمجموعات اثبتت انها مصممة على المضي في طريق صعب نحو ديمقراطية حقيقية من اهم ملامحها حكومة منتخبة غير معينة تأتي بعيدة عن الاكثرية البرلمانية. وفي السعودية خرجت مجموعات صغيرة تطالب بحقوق مساجين يبقون دون محاكمة وتنتهك حقوقهم الانسانية في سجون متشعبة يتعرضون فيها الى انتهاكات جسدية وتعذيب طويل الامد.
وان كانت الثورات العربية والحراك الحالي تبلور حول مطالب منها رحيل الانظمة او اصلاحها لتعكس طبيعة التغيير في تركيبة المجتمعات العربية الا ان مفهوم الثورة لا يعني فقط تغيير النظام ورأسه بل تعريف الثورة الحقيقية هو استبدال طبقة اجتماعية متمكنة وحاكمة بطبقة اخرى صاعدة لكنها مهمشة ويبقى تغيير الرئيس وطاقمه الاداري البيروقراطي وجماعاته المتمكنة هدفا رمزيا غايته الوصول الى مرحلة حاسمة وهي استبدال الطبقة السياسية والادارية والاقتصادية بأخرى ظلت على هامش السلطة تحت مظلة الحكم التسلطي لفترة طويلة وقد ينشأ تحت هذه المظلة طبقات اجتماعية جديدة تتمكن تعليميا ونخب ثقافية تظل محاصرة من الطاقم القديم والعهد البائد فتحاول هذه الطبقة الجديدة ان تفرض نفسها اجتماعيا رغم انها غير متمكنة سياسيا وقد تمتلك مصالح اقتصادية هي ايضا تظل محاصرة من قبل الكوادر القديمة والتي تعترض وصولها الى مفاصل السلطة لتسهل اختراقها للمساحات الاقتصادية المتوفرة للاستثمار والمشاركة والمنفعة. وتفرز الطبقات الجديدة المفكر والمثقف الذي يحاول التعبير عن طموحات الجمهور الجديد العريض بمختلف مستوياته التعليمية والمعرفية فيجسد روح الثورة ويعبر عنها باطروحات علمية وفكرية وتأصيل ثقافي فيمدها باللغة الضرورية لحراكها لانه يحدد الهدف والمسيرة ويبقى عليها مسؤولية التحرك باتجاه الهدف المحدد. وفي العالم العربي برزت طبقات اجتماعية جديدة في عمق العالم العربي ومجتمعاته خلال النصف الثاني من القرن العشرين بدأت تحاول ان تحفر وجودها على خارطة الاوطان السياسية والاقتصادية دون ان تنجح باختراق حلقات الحكم والتكنوقراط المرتبط بالانظمة السابقة. فبعد فترة الخمسينات والتي اطاحت بعدد من الانظمة التقليدية التي تمخضت بعد استقلال هذه الدول عن الاستعمار ولو شكليا برزت مجموعة كانت منغرسة في السلك العسكري جاءت الى السلطة لتطيح بالعوائل الحاكمة سابقا وطاقمها المرتبط بها تماما كما حصل في مصر والعراق لكن عندما استتب الامر للعسكري بعد زوال الاسر التقليدية القديمة تبلور حول السلطة طبقة جديدة ازاحت الكوادر القديمة وظلت تحتكر الحكم الانفرادي لكنها عند ثورات 2010 ـ 2011 وجدت نفسها وجها لوجه امام طبقة اجتماعية جديدة نمت نتيجة انتشار التعليم الحكومي رغم تدني مستواه وتقلص المعرفة في ربوعه كذلك نمت طبقة اقتصادية جديدة ربما يصح تسميتها بالبرجوازية الصغيرة التي ظلت مهمشة تحت وطأة دخول هذه الدول في المنظومة الاقتصادية العالمية والتجارة المنفتحة التي احتكرتها الطبقات الحاكمة ودوائرها الاقتصادية المنتفعة.
في ظل هذا التغيير الاجتماعي الطبقي الذي شهدته الدول الفقيرة والغنية في العالم العربي نجحت تيارات اسلامية معروفة كتيار الاخوان المسلمين القديم وتبلورت احزاب وتيارات سلفية جديدة استطاعت ان تحتضن مطالب الطبقة الاجتماعية الجديدة من البرجوازية الصغيرة والطبقات المعدمة المهمشة فنجحت في انتخابات ووصلت الى البرلمانات وكان خطابها يمزج بين الخطاب الديني والسياسي والاقتصادي دون ان يكون للاخير مركز محوري الا في دعوات القضاء على الفساد السياسي والاقتصادي والاداري وحلقات الزبونية التي نمت وتطورت حول اجهزة الحكم البائدة. وظلت هذه الاحزاب ترفع شعارات الهوية لمعرفتها انها بذلك تستجيب لعواطف الجماهير المتكدسة والتي تتمسك باخلاقيات جعلتها العدو اللدود للانظمة المتسلطة السابقة.
وتصدرت الاحزاب الاسلامية صفوف المعارضة لانها تعبر عن وعي جديد نضج خلال العقود السابقة خاصة بعد انهيار خطاب التيارات اليسارية والقومية وان كانت بعض المجموعات على هوامش هذه الاحزاب قد جنحت للعنف والجهاد العسكري ضد الانظمة الحاكمة بل انها شطحت الى ابعد من ذلك عندما اعلنت حربها كحرب عالمية كونية ضد القامعين لطموحات المسلمين في بلاد الواسعة الا ان الاغلبية من المنخرطين في هذه الاحزاب الاسلامية القديمة والجديدة ظلوا ملتزمين بتأطير وتأصيل خطاب شرعي اسلامي يدعو الى التغيير السلمي وجاءت لحظة الثورات العربية كتجسيد لهذا التحول التاريخي وان كانت هذه الاحزاب ليست من حرك الثورة في بلاد كمصر وتونس الا انها انخرطت بمشروع جهاد سلمي ضد الطغاة العرب منذ اكثر من عقد على خلفية احداث الحادي عشر من سبتمبر حيث اضطرت هذه المجموعات ان تغير خطابها وتتجه الى منظومة جديدة تبلورت في دعوات المقاطعة والمظاهرات والاعتصامات بعد كل حادثة او نازلة من الاعتراض على الكاريكاتورات المسيئة للمقدسات الى الافلام المتهكمة على المسلمين وفي الجزيرة العربية شهدت الساحة السياسية منذ عقد كامل بروز تغيير واضح ونقلة نوعية في تفكير وممارسة ما يصح تسميته الاسلامي الجديد وهو نموذج جديد للحراك يجمع بين المطالبة بدولة مدنية في مجتمع مسلم وينتقل من خطاب واجبات المسلم الى حقوقه ويجمع بين الايمان الشخصي وحرية المعتقد يتجاوز عقدة الطائفية والقبلية ويدعو الى جهاد سلمي تجاه القضايا العالقة كالفساد والسجن التعسفي والتعذيب في السجون واختلاس المال العام والاستهتار بموارد الثروة. وان لم يعطل هذا الاسلامي الجديد الجهاد العسكري الا ان قضاياه المحلية تستوجب الحل بالجهاد السلمي والمشاركة في العملية السياسية وصنع القرار ويدعو الى المشاركة في انتخابات وتمثيل سياسي رغم ان السلطة تظل متجاهلة هذا التحول في خطابه واستراتيجيته فالنظام السعودي يفضل ان يبقى التيار الاسلامي محصورا بين فئتين فئة جهادية عنيفة تحمل السلاح وتستعمل اسلوب التفجيرات لان هذا التيار يعطي السلطة زخما امنيا وشعبيا خاصة وانها تواجه العنف الذي ترفضه الاغلبية الساحقة في المجتمع وفئة اخرى موالية للسلطة المطلقة يتندر المجتمع بخطاباتها العقيمة وفتاواها المسلية وتنمو السلطة وتنتعش بين هذين التيارين التيار العنيف والتيار المؤاخي للسلطة كذراع ديني وغطاء شرعي اما الخيار الثالث الذي نتحدث عنه هو من يشكل الخطر المستقبلي لانظمة كالنظام السعودي او الانظمة المجاورة في الجزيرة العربية واطرافها فالاسلامي الجديد الجامع بين خطاب المحافظة على الهوية ومحاربة اشكال الاستئثار بالسلطة والفساد المستشري والتنمية الوطنية من جهة وبين استراتيجية العمل السياسي تحت مصطلح الجهاد السلمي يشكل تحديا جديدا للانظمة الفردية وحكم الاسر الوراثي وبالفعل استطاعت التيارات المتبنية لهذا الموقف الجديد ان تصل الى الجمهور وتحركه وتكسب بعدا شعبيا لم يكن من المتوقع في نظر السلطة فاتهمته بالحكم الوراثي القبلي المتدين الذي سيستغل اواصر قبلية مستشرية في المجتمعات لينشر نفسه افقيا مستغلا العصبيات القديمة وتنسى الاسر الحاكمة ان حكمها تحول الى عصبية وقبلية مستأثرة بالسلطة مما تحرمه على المجتمع نجدها تتمرس في تطبيقه عمليا تحولت الاسر الحاكمة في السعودية والخليج الى قبائل تنهي وتأمر المجتمع وتتصرف بموارده الاقتصادية وكأنه ملك قبلي قديم مما ادى الى تهميش شرائح كبيرة في المجتمع منها القبلي وغير القبلي وتواجه هذه الاسر التحول الاسلامي من الجهادي العنيف الى الجهادي السلمي تارة بالمراوغة وتارة بالضرب والعنف وتتخبط في طريقة تعاملها مع تحدياته ومطالبه فتحاول رشوته تارة وقمعه تارة اخرى دون ان تكسب المؤيدين لهذه السياسة تماما كما كان يحصل في السابق عندما وجهت كتائبها الامنية والعسكرية للتصدي للتيار الجهادي العنيف واليوم لا يقف خلف الانظمة الضاربة بيد من حديد حسب تعبيراته السياسية المبتذلة سوى اقلية اجتماعية تتألف من بقية افراد الاسر الحاكمة والتي يهددها التغيير القادم حيث تخاف على مصالحها ومعاشاتها وسطوتها والابهة المحيطة بها وتكون هذه الشريحة ملكية اكثر من الملك حيث ان الاخير قد يهرب وينجو بنفسه اما هي فستواجه مصيرا قد لا يكون في الحسبان وهناك ايضا طيف عريض من التكنوقراط والاسر الاخرى الشعبية المرتبطة بالحكم الوراثي والتي خدمته طيلة عقود وتوارثت خدمته من الجيل السابق وتتوجس هذه الاسر والبيروقراط القديم من التغيير الذي يهدد بنسف صلاحياتها وموقعها كبطانة ادارية تنفذ اوامر السلطة وتؤمن لها تدجين المجتمع وارهابه بالعنف النظامي واجهزة الامن وتستحوذ على حظوة عند سلاطين الاسر الحاكمة تنتفع على خلفيتها من الانفتاح الاقتصادي والاستثمار التجاري الذي وفره الاقتصاد الاستهلاكي الحديث والقديم.
نحن اذا بصدد تغييرات اجتماعية عبرت عن نفسها من خلال تجمعات اسلامية سياسية بدأت بالفعل تكسب الجماهير خاصة بعد ان تراجع خطاب الجهاد العسكري وتطور مكانه خطابا جديدا يركز على حقوق المواطن ومشاركته السياسية والاقتصادية وان كان من نصيحة نسديها للقائمين على هذه التيارات فهي تتلخص في الاستمرار في جهاد سلمي راق لينزع اوهام السلطة الذي لا يزال يخوف المجتمع بالبعبع الاسلامي كمارد يحتاج الى من يوقظه وان لا تتحول هذه التيارات من مواجهة السلطة الى مواجهة بعضها البعض فالاخواني الذي يرعبنا بالتيار السلفي والسلفي الذي يطعن بعقيدة واسلام الاخواني يخدمون السلطة المستبدة وقد يتحولون الى مرآة لها تماما كما كانت وما زالت الانظمة العربية الجائرة ترعب العالم بخطر القاعدة واخواتها. لقد انبثق فجر جديد للعرب بزوال الاستبداد لكن المرحلة القادمة قد تكون اخطر واكثر حاجة لرص الصفوف واعادة صياغة خطط التنمية الاقتصادية لتستوعب الشباب والذي كان هو صانع الثورة خلال العامين المنصرمين. وتحصين الشباب المجاهد سلميا من انزلاقات باتجاه العنف مسؤولية اجتماعية يجب على الجميع تحملها لتفويت الفرصة على انظمة مستبدة قد تجره الى متاهات العنف لتتخلص من ملف التغيير السياسي المستحق الآن.

' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق